«إلا انت» يكاد الرضيع ينطق بها -بالكسرة تحت التاء- وعيناه تضحكان وأنامله تتشبث، وشفتاه ترتعشان بحثاً عنها، وقلبه الذى يشبه قلب العصفور الدقيق الضعيف ينتفض، وعضلات جسده كلها تنقبض وتنبسط ويتكور الكيان الصغير فى محاولة تعاد بين كل لحظة وأخرى رغبة فى اقتحام ذلك الملمس الحبيب، الذى ما زال محتفظاً بحفر له داخله لا تنمحى خطوطه، مهما تغير شكل الجسد أو زادت كتلته أو نقصت رغبته فى العودة إلى الرحم من جديد، حيث الأمان وصوت دقات قلب الحبيبة يؤنسه، والظلام من حوله يطمئنه فى منظومة يتعجب لها الخلق جميعاً -من أن يكون الظلام أنيساً وليس خوفاً أو فزعاً-، وعلى الجانب الآخر من تلك العلاقة الأبدية المذهلة فى تفاصيلها، التى تدعو للتأمل فى تلك القدرات اللانهائية على العطاء تقولها دائماً له «إلا انت» -بالفتحة على التاء- وهى تحمله معها أينما ذهبت بين ذراعيها، وبرغم الأعباء المتواصلة والقلق والإجهاد والمتابعة التى لا تتوقف والدعاء الصادق من القلب بحظ سعيد ورزق وفير وعلم نافع وحب يحتويه وجوائز عالمية وصور وأخبار عنه فى الصحف ووكالات الأنباء وألقاب تشريفية واستقبالات رسمية ومراسم ملكية وذرية صالحة، إلا أنها تتمنى لو يتوقف الزمن عند هذه الصورة المعبرة بالخطوط والكلمات والألوان والنظرات، حتى لا يبتعد عنها ولا يتنازل عن قربها ولا يستبدل بنك العواطف والاحتياجات الذى يعمل ويمنح ويبسط يديه ويعطى برضا وسخاء وحب ويقرض دون شروط ولا ضمانات ولفترات غير محددة مهما طالت وتراكمت بلا توقف بآخر غيرها. «إلا انت» نقولها جميعاً فى صدورنا -بالفتحة والكسرة- وتنطق بها قلوبنا ونظراتنا ولمسات أيدينا ونرددها فى الأحلام المسائية، التى نبحث عن تفسيرها بين صفحات الكتب، وفوق شفاه العجائز وفى أحلام اليقظة التى نراها، ونحن مستيقظون وعيوننا مفتوحة ترى الشمس وضوءها المبهر، لنرضى بها أمنياتنا فى الانتظار ونعطى أشواقنا أملاً باللقاء والوصال وآخر بالنجاح والتألق وإبهار الأهل والأصدقاء والزملاء والعالم كله ونردد فى كل مرة ومع كل حلم ومشهد «اللهم اجعله خير». «إلا انت»، هكذا ندعو دائماً فى صلواتنا وخشوعنا، وليلة القدر والعشر الأواخر من رمضان كل عام، وليلة النصف من شعبان، وأمام أضرحة آل البيت، أن تظل السند والمأوى والسكن والدار والبيت الكبير الذى يجمعنا، والحضن الدافئ الذى يحمينا من برودة الشتاء وقيظ الصيف وتقلبات الزمن وعثرات الأيام وضيق اليد والنيران الصديقة، التى لا تفرق بين الحبيب والعدو، وألم المرض وأعداء النجاح، وأن نظل نغنى لك ويدق أطفالنا بأقدامهم لحن حبك كل صباح، الذى يتحول إلى دقات بالبنادق وأعلام ترفرف فى سمائك وقلوب تحلق فى الفضاء، ترسم بأجسادها اسمك وأرواح تغادرنا فداء لك. «إلا انت»، كما كتبها الشاعر حسين السيد قصيدة ناعمة باللغة العامية، تغنت بها المطربة نجاة الصغيرة، وعاشت بيننا حتى الآن بحروفها وما تحملها من مشاعر، رمزاً لكل حبيب، فهو الابن والسند والوطن والأمل والبيت والعمل ومقعد الدراسة والأوراق الخاصة والركن المفضل وألبوم الذكريات وأوراق الورد المجففة، تحكى كلما تحركت من مكانها قصة الحياة بفصولها وأيامها ولياليها وأفراحها ودموعها. «إلا انت» هاتان الكلمتان اللتان يعجز الكثيرون عن فهم معناهما وإعرابهما، طبقاً لقواعد اللغة العربية، التى تترجم مشاعرنا بكل صدق وأريحية، فيقول علماؤها إن الاسم الواقع بعد «إلا» فى الاستثناء التام المثبت والاستثناء المنقطع، يعرب مستثنى منصوباً، أما فى الاستثناء التام المنفى المتصل، فيعرب الاسم الواقع بعد «إلا» بدلاً، أو مستثنى منصوباً، وإذا كان مرفوعاً أو مجروراً، فلا يعرب سوى «بدل» ويجوز فيه النصب أو التبعية لحركة المستثنى منه. أما «انت»، فهى من ضمائر المخاطب، فليخاطب كل منكم من يعز عليه ويشتاق إليه ويبحث عنه ويناديه ويقول: «إلا انت».