الجنيه المصري يحلق بعيدا.. و"المركزي" أثبت عبقريته
صعود الجنيه
أداءٌ تاريخى حققه الجنيه المصرى فى رحلة صعوده أمام الدولار خلال السنوات الثلاث الماضية، فتمكنت سياسات البنك المركزى الحكيمة وقدرة البنوك على تنفيذ هذه السياسات بفاعلية من القضاء على السوق الموازية التى سادت سيطرتها على أسعار العملات الأجنبية قبل تحرير سعر الصرف، وإدارة عملية توفير الدولار للجمهور بشكل منظم، إلى أن وصلنا الآن لحالة من الاستقرار فى سوق العملات، وامتلاك القطاع المصرفى لمخزون قياسى من الدولار، أدى إلى تراجع سعره أمام الجنيه بنحو 4 جنيهات خلال ثلاث سنوات، ليهبط من مستوياته المرتفعة بعد تحرير أسعار الصرف عند 20 جنيهاً للدولار، إلى 15.5 جنيه فى البنك المركزى.
2019؛ العام الذى شهد فيه الجنيه المصرى تصاعداً كبيراً فى أدائه، ووصلت رحلة صعوده لمستويات قياسية، حيث كسر فيه الدولار حاجز الـ16 جنيهاً، واستعاد خلاله الجنيه 10% من قيمته، وجاء ذلك مدفوعاً بعدة عوامل أبرزها ارتفاع قيمة مصادر النقد الأجنبى خلال الربع الأول من العام المالى 2019/2020 بلغت نحو 21.9 مليار دولار، حيث تمثل حصيلة الصادرات النسبة الأكبر من مصادر العملة الأجنبية بحوالى 32%، تليها تحويلات العاملين بالخارج والتى تمثل نحو 31% ووصلت إلى 6.71 مليار دولار خلال الربع الأول للعام المالى الجارى، وكذلك ارتفاع إيرادات مصر من قطاع السياحة التى قفزت بنحو 77% تقريباً بالتزامن مع زيادة أعداد السياح الوافدين إلى البلاد بنحو 41% خلال النصف الأول من 2019.
الدولة تعول على القطاع المصرفى كركيزة أساسية لاجتياز الأزمات
وتضمنت أيضاً عوامل دعم الجنيه المصرى فى رحلة صعوده، تحسن أداء الميزان التجارى نسبياً، حيث انخفض العجز من 9.8 مليار دولار فى الربع الأول من العام المالى السابق إلى 8.8 مليار دولار خلال الربع الأول من هذا العام، نتيجة زيادة حصيلة الصادرات بـ300 مليون دولار خلال الربع الأول من العام المالى الجارى مقارنة بالفترة ذاتها من العام المالى السابق، وانخفاض الواردات بنحو 700 مليون دولار.
البنوك تؤكد جدارتها بالثقة
وشهدت أيضاً استثمارات الأجانب فى أذون الخزانة، نمواً لتصل إلى 15.29 مليار دولار بنهاية سبتمبر الماضى، وذلك فى ظل انخفاض مخاطر الدولة خلال الفترة الحالية، مما ساهم فى إعطاء ميزة تنافسية لمصر عن الأسواق الناشئة، وتوافد الصناديق الأجنبية للاستثمار فى أدوات الدين.
كما أوضحت المؤشرات ارتفاع صافى الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل ملحوظ خلال الربع الأول للعام المالى 2019/2020، حيث وصلت إلى 2.35 مليار دولار، بارتفاع قدره 66% مقارنة بالربع الأول 2018/2019، فضلاً عن نمو إيرادات قناة السويس التى سجلت نحو 51.8 مليار جنيه خلال النصف الأول من العام المالى 2018/2019.
وأدت هذه التدفقات الكبيرة من المصادر المختلفة إلى ارتفاع صافى الاحتياطات الأجنبية تدريجياً ليصل إلى 45.4 مليار دولار فى يناير 2020 مقارنة بنحو 13.4 مليار دولار فى مارس 2013، ليرتفع بذلك عدد شهور الواردات التى يغطيها صافى الاحتياطى من النقد الأجنبى إلى 8.2 شهر فى ديسمبر 2019 مقارنة بنحو 2.8 شهر فقط فى مارس 2013، ويدعم بدوره قوة الجنيه المصرى أمام العملات الأجنبية.
صاحب اليد العليا فى عبور الأزمات
وكان للقطاع المصرفى المصرى اليد العليا فى تجاوز أزمة توافر الدولار خلال السنوات الماضية، بل وساعد الاقتصاد المحلى على امتصاص الصدمات الداخلية والخارجية، وذلك مع استمراره فى القيام بدوره فى توفير السيولة الدولارية اللازمة للسوق المحلية، وتوفير التمويل اللازم لدعم النمو الاقتصادى، ويأتى ذلك فى ضوء كفاءة البنك المركزى فى القيام بدوره الرقابى والإشرافى وكذلك تطبيقه لأحدث الممارسات الدولية، إلى جانب وضع قواعد واضحة تحكم العلاقة بين البنوك وعملائها فى كافة مراحل التعامل، بل وإصداره لتعليمات رقابية أكثر تحوطاً عن المتعارف عليها دولياً، وهو ما أدى إلى استقرار القطاع المصرفى والحد من تأثير المخاطر النظامية التى قد تؤثر على سلامته.
وتكشف مؤشرات الأداء المالى عن قوة وصلابة القطاع المصرفى الذى تعتمد عليه الدولة بشكل أساسى فى تجاوز الأزمات الاقتصادية، وتسريع وتيرة التنمية، حيث يمثل إجمالى أصول القطاع المصرفى نحو 112% من الناتج المحلى الإجمالى الاسمى للاقتصاد المصرى، والتى قُدرت بـ5.7 تريليون جنيه بنهاية مارس 2019 وفقاً لتقرير الاستقرار المالى الأخير الصادر عن البنك المركزى.
وذكر تقرير الاستقرار المالى للدول العربية 2019، أن البنوك المصرية جاءت فى المرتبة الأولى من حيث تحقيق أكبر معدل نمو فى القطاع المصرفى العربى، مما يعرب عن تطور نتائج أعمال البنوك العاملة فى القطاع المصرفى المصرى، ليحقق بعضها معدلات نمو مرتفعة فى مؤشرات الربحية، ويتحول البعض الآخر من الخسارة إلى الربحية لأول مرة منذ سنوات، وهو ما ترصده حلقات توثيق أداء القطاع المصرفى الذى يقوم به «الوطن الاقتصادى».
الواقع يدعم الثقة فى مستقبل القطاع المصرفى
الواقع يقول إن التطورات الأخيرة التى يشهدها الاقتصاد المصرى بشكل عام بما يشمله من سلوك مواطنين، والقطاع المصرفى بشكل خاص بما يشمله من سياسات البنك المركزى وتطور أداء البنوك، تدعم وبقوة الثقة فى مستقبل القطاع المصرفى، خاصة مع اعتماد الدولة عليه بشكل رئيسى فى دفع معدلات النمو، وامتصاص صدمات الأزمات الاقتصادية وتوابعها.
ولعل من أبرز العوامل التى تدعم الثقة الكبيرة فى القطاع المصرفى، هى الطفرة التى شهدتها الخدمات التى تقدمها البنوك، والتى ساهمت فى نشر ثقافة الشمول المالى، واستقطاب أكبر عدد ممكن من العملاء خلال الثلاث سنوات الأخيرة للتعامل مع القطاع المصرفى فى إطار خطة الدولة للتحول لمجتمع رقمى، ويتزامن ذلك مع تعافى الدخل الحقيقى للمواطنين، بعد السيطرة على معدلات التضخم والوصول بها إلى مستويات قياسية عند 9.2% خلال 2019، الأمر الذى يدفع المواطن لادخار جزء من دخله بعد التحسن، أو تمكنه من الحصول على التمويلات التى باتت متاحة بتكلفة منخفضة فى ظل المبادرات التى يطلقها المركزى.
وهو ما تؤكده مؤشرات البنك المركزى بالنمو الكبير الذى حققته أرصدة التسهيلات الائتمانية المقدمة للعملاء منذ 2016 وحتى 2019، والتى وصلت أرصدتها إلى 1.84 تريليون جنيه بنهاية نوفمبر 2019، مقارنة بـ1.3 تريليون جنيه بنهاية ديسمبر 2016.
الابتكار السبيل الأوحد للاستمرار
مع توجه مصر للتحول إلى مجتمع رقمى، واستخدام نحو 40% من المصريين الإنترنت من خلال الموبايل للاستفادة من الخدمات المقدمة عن طريقه، والتى دفعت الشركات التكنولوجية للتوسع والابتكار فى الخدمات المقدمة لهذه الشريحة الكبيرة من العملاء، خاصة الخدمات المالية، على البنوك أن تتخذ الابتكار سبيلاً للبقاء ومواصلة النجاحات التى قام بها على مدار العقود الماضية، بما يدعم وجوده كركيزة أساسية يعتمد عليها الاقتصاد المصرى.
تقرير الاستقرار المالى العربى: البنوك المصرية الأسرع نمواً فى المنطقة خلال ٢٠١٩.. والقادم أفضل
ولعل ما شاهدناه خلال السنوات القليلة الماضية من إطلاق بعض البنوك لفروع إلكترونية بالكامل، وتوفير بنوك متحركة تجوب المناطق النائية لتقديم الخدمات البنكية، والتوسع فى استخدام الإنترنت البنكى والموبايل بانكينج، والانتشار الواسع لماكينات ATM، أحد أبرز مظاهر التطور التى عكفت البنوك العاملة فى القطاع المصرفى المصرى على تحقيقها.
ولكن لن يقتصر التطوير والابتكار عند هذا الحد، خاصة مع التطورات العالمية التى يشهدها العالم كل لحظة فى هذا القطاع؛ ففى ألمانيا تداولت بعض المواقع الإخبارية أن البنوك تواجه صعوبة فى تخزين الأموال والعملات التقليدية، وقد تستعين بشركات خاصة للقيام بهذه المهمة.
وعلى الرغم من أن هذا الخبر قد ننظر إليه بسخرية ودعابة اعتدنا عليها فى مصر، إلا أنه يبعث إلينا رسالة عن مدى تطور الأنظمة المالية العالمية، وتحولها بالكامل إلى قطاع رقمى، تعد التكنولوجيا والابتكار هما المحركان الرئيسيان له، حتى أصبح لا مكان لوجود الأنظمة المالية التقليدية التى ما زالت تعتمد على العملات المادية.
وبناءً عليه؛ لا بد على شركاء النجاح فى القطاع المصرفى المصرى أن يتداركوا هذه التطورات، والحاجة الماسة لتغليب روح الابتكار فى تقديم الخدمات والمنتجات لجذب عدد أكبر داخل القطاع المصرفى الذى يتمتع بثقة كبيرة ورقابة قوية تمكّنه من لعب دور مهم فى الاقتصاد المصرى، فى ظل دخول شركات التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعى فى القطاع المالى وإطلاق عملات رقمية غير منظمة قد تُحدث فوضى فى النظام المالى المصرى.