بعد أسابيع قليلة تنتقل الإدارات الحكومية إلى العاصمة الإدارية الجديدة، ومعها 50 ألف موظف يتم اختيارهم عبر اختبارات معينة تتوافق مع الفلسفة الرئيسية من بناء عاصمة إدارية تكون بمثابة قاطرة لتحديث الجهاز الإدارى للدولة المصرية. هذا التحديث لم يعد ترفاً بقدر ما هو ضرورة يحتمها الطموح الرسمى والشعبى فى نقل مصر إلى مصاف الدول الحديثة، وفق استراتيجية وسياسات واضحة يتكامل فيها الأداء الحكومى مع الأدوار التى يقوم بها القطاع الخاص والمدنى ويدعمها المواطنون، والعامل الأخير لا غنى عنه لإنجاح المنظومة كلها، ولن يتوافر إلا بمزيد من الشفافية والمشاركة الشعبية ومراعاة احتياجات الأجيال الجديدة للعمل والترقى.
تقوم خطة الحكومة على عدة محاور، كالتشريعات الجديدة التى تنظم عمل الإدارات الحكومية المختلفة، وأبرزها قانون الخدمة المدنية، واستحداث وحدات تنظيمية للموارد البشرية والتخطيط الاستراتيجى والسياسات والتحول الرقمى والمراجعة الداخلية والدعم التشريعى. والمهم هنا ليس فى استحداث ما هو معروف ومعمول به فى حكومات البلدان الأكثر تقدماً، ولكن فى حُسن التطبيق وفى وجود سياسات واضحة ومُعلنة يعرفها العاملون أنفسهم فى الجهاز الإدارى، بحيث يتفاعلون معها بإيجابية ويعملون على إنجاحها وليس إفشالها، كما حدث فى مراحل سابقة. فالعنصر البشرى وتواصل الأجيال هو الأساس وبدون إعداده ومعالجة أوجه الاعتراض لديه سواء المعلنة أو المضمرة سيظل الإصلاح الإدارى مكبلاً وقابلاً للارتداد. وفى علم الإدارة العامة يوجد فصل مهم للغاية يتعلق بمقاومة التغيير وكيفية معالجته، من خلال استراتيجيات وسياسات معروفة ومجربة وليست محل اجتهادات أو الانطلاق من الصفر.
ووفقاً للعناصر الرئيسية لخطة الإصلاح الإدارى التى قدمتها وزارة التخطيط والمتابعة للبرلمان فى سبتمبر الماضى، هناك ثلاثة عناصر لافتة للنظر، وهى تشكيل لجنة للإصلاح المالى والتشريعى تتابع المشكلات المتعلقة بعملية الإصلاح، والعمل على مشروع رفع الكفاءة، من خلال وحدات الموارد البشرية لتدريب وتأهيل العاملين، ولا يوجد تعيينات فى الجهاز الإدارى للدولة إلا باستثناء خاص.
وهكذا تستند الخطة على تخفيض العدد الإجمالى للجهاز الإدارى، باعتباره متضخماً وأكثر من طاقة الموازنة العامة للدولة، من خلال عدم التعيين على الإطلاق، وثانياً تدريب العاملين الموجودين بالفعل من خلال برامج خاصة تشرف عليها لجنة خاصة. وثالثاً ما صرح به كبار وزارة التخطيط بأنه لا تخلى عن أى موظف موجود بالفعل فى الحكومة، ولكن مع تشجيع العاملين على المعاش المبكر الاختيارى نظير الحصول على امتيازات خاصة. ومجمل هذه العناصر يعنى عملياً، ومع خروج العاملين على المعاش سواء المبكر أو الاعتيادى عند الوصول إلى سن الستين عاماً، ليس فقط تقلص أعداد العاملين فى الحكومة ولكن حصر الموجودين فى فئات عمرية أكبر وتزداد عمراً مع مرور الوقت، وعدم وجود أجيال جديدة تفرضها سنة الحياة، وبالتالى انقطاع تواصل الأجيال ونقص الخبرات تباعاً. وقد يقول قائل إن الأمر سيتم تعويضه من خلال الميكنة، والتوسع فى استخدام التطبيقات الإلكترونية التى ستوفر العاملين وتمنع الفساد وتؤدى إلى تقديم خدمة حكومية أفضل عما هو عليه الحال الآن.
وتلك بدورها تتضمن إشكاليات عملية كبرى، فالذين يتعاملون مع التطبيقات الإلكترونية بكفاءة وسلاسة هم الأقل عمراً وليس الذين يزيد عمرهم على الأربعين والخمسين، وهم الأغلبية العظمى الآن فى الجهاز الإدارى وفى المؤسسات القومية بشكل عام، وهؤلاء ينظرون إلى تلك الأساليب الإلكترونية نظرة سلبية تماماً، ويتعاملون معها بقدر محدود للغاية يفقدها الامتيازات التى تنطوى عليها نظرياً.
مسألة انقطاع الأجيال وعدم وجود حل لها تمثل إشكالية كبرى تبدو غائبة تماماً عن القائمين على الإصلاح الإدارى للدولة. وبمراجعة أداء بعض الوزارات المعنية مباشرة بحقوق ومصالح عليا للمواطنين وللدولة نفسها، نجد محاولات الالتفاف على هذه المشكلة من خلال الاستعانة بشركات خاصة تقدم خدمات فرعية وليست أساسية، وهى شركات تقدم مكافآت شاملة أقل من نصف الحد الأدنى للأجور المعمول به فى الدولة، حتى للذين لديهم شهادات جامعية، ويضطرون لقبول هذه الوظائف رغبة فى ممارسة دور اجتماعى بدلاً من الجلوس فى المنزل وعلى المقاهى، أو التنطع فى الطرقات، أو التورط فى أعمال ضارة بالمجتمع. وهؤلاء يتعرضون فى الواقع إلى ظلم كبير، إذ يُنظر إليهم باعتبارهم مجرد فواعل، ويتم استغلالهم فى أعمال إدارية وغير إدارية متعددة، رغم عدم قانونية ذلك، ويخففون العبء عن الموظفين المعينين الذين يحصلون على مرتبات أعلى وامتيازات الوظيفة الحكومية من إجازات ومكافآت وخلافه. وهم أيضاً الذين يتم التخلى عنهم فى أى لحظة بدون أى تعويضات أو حتى كلمة شكر عابرة، وحين يحدث ذلك لا يقدر أحد حجم الضرر النفسى الذى يُلحق بهم، أو حجم فقدانهم للثقة فى الحكومة وفى الدولة وفى كل شىء حولهم، وبعضهم يتحول إلى بؤرة عدم رضاء قابلة للانفجار بأشكال مختلفة تضر بالمجتمع ككل.
من مظاهر الالتفاف الأخرى على مبدأ عدم التعيين، التى مارستها وزارتا التعليم والتضامن الاجتماعى، كما حدث فى العامين الأخيرين، هو الإعلان عن مسابقات للتعيين بعقود، تقدم إليها آلاف الخريجين، بعد تقديم كل الأوراق المطلوبة، التى كلفت كل شاب الكثير من الأموال، وفى بعض الأحوال حدثت مقابلات وانتهى الأمر إلى كون المسابقة مجرد تضييع وقت لعدة آلاف من الشباب. فى حالة وزارة التعليم كما حدث فى العامين الماضيين، تم الإعلان عن مسابقة فى بداية العام الدراسى لتعويض نقص المدرسين فى مواد معينة، وتقدم الآلاف، ومر أكثر من نصف العام، وتم اختيار البعض عملوا أقل من خمسة أشهر، ثم انتهى التعاقد، وفى العام التالى تم الإعلان عن المسابقة ذاتها، ولم يُنظر إلى هؤلاء الذين تم تشغيلهم فى العام السابق، وطُلب من الجميع التقديم بأوراق ومستندات جديدة مكلفة، دون أن يحدث شىء.
هذا الأسلوب من محاولات تعويض نقص العمالة ذات التخصصات المطلوبة لتسيير دولاب العمل الحكومى، لا يعالج المشكلة بقدر ما يفاقمها، بل ويضع مبدأ الثقة المطلوبة لنجاح أى جهاز إدارى موضع شك كبير. وفى تقديرى أن مبدأ عدم التعيين فى الجهاز الحكومى بالمطلق فى بلد وصل إلى المائة مليون نسمة، وفى ظل عدم قدرة القطاع الخاص على توفير آلاف الوظائف سنوياً، يضع المجتمع ككل فى مأزق شديد. فهؤءلا الشباب بحاجة إلى حكومة فعالة ترعاهم وتقدم لهم الفرص لحياة كريمة ودور بناء، لا أن تمنعها عنهم وتتركهم بلا سند.