وسط معارك إدلب الطاحنة التى تدور بين الجيش السورى وقوات الاحتلال التركية المدعومة بالمنظمات الإرهابية، يستصرخ أردوغان طالباً العون من أربع جهات مرة واحدة، أولها موسكو راغباً أن ترفع يدها عند دعم الجيش السورى وتترك له المجال لإنهاء نظام الرئيس بشار الأسد، حسب وصفه، والثانية حلف الناتو، حيث هو عضو فيه، زاعماً أن من حقه الحصول على دعم عملى وعملياتى من الحلف لاستكمال مشروعه فى احتلال شمال سوريا ولمواجهة كل من روسيا وسوريا معاً. وثالثاً الولايات المتحدة طالباً دعماً حالاً يتمثل فى إمداده بصواريخ باتريوت لمواجهة التفوق الجوى لروسيا فى شمال سوريا، ورابعاً أوروبا بزعم أن عدم وقوفها معه بالمال والسلاح سيؤدى إلى عدم الاستقرار فيها، إذ سيرسل إليها اللاجئين وعليها أن تتحمل جزءاً من العبء.
وكل هذه التحركات تصورها أنقرة كذباً فاضحاً، على أنها عملية ذات أبعاد إنسانية لحماية السوريين ولا تخرج عن حدود إلزام النظام السورى باتفاقية سوتشى الموقعة قبل عامين، التى لم تلتزم منها بأى تعهد، كوحدة سوريا الإقليمية، وفصل المجموعات المسلحة عما قد يوصف بأنه معارضة مسلحة، وعدم تغيير الوضع السكانى فى إدلب أو باقى القرى والمدن التى تسيطر عليها القوات التركية بمساعدة عملاء سوريين وجماعات مسلحة غير سورية.
طلبات الاستغاثة التركية على هذا النحو تعنى شيئاً واحداً، وهو أن الحملة العسكرية التركية التى أنذر بها أردوغان تواجه تحديات لا قبل لأنقرة بها، وأن الجيش التركى وحده رغم تفوقه فى العتاد والأفراد والعملاء مقارنة بالجيش السورى لا يضمن له تحقيق الانتصارات الساحقة اللهم إلا بدعم خارجى وقبول دولى لكافة أبعاد المغامرة التركية. يضاف إلى ذلك أن الدعاية التركية وادعاء المزاعم الأخلاقية والإنسانية بات مفضوحاً ولا يلقى أى قبول اللهم سوى من تيار الإخوان والمتأسلمين الخونة لدينهم وأوطانهم. فاللاجئون السوريون على حدود الدول الأوروبية فى حال يرثى له، وهم الذين تصوروا يوماً ما أن تركيا أردوغان سوف تدافع عنهم وتقدم لهم الحماية وتعاملهم معاملة إنسانية، أدركوا أنهم ليسوا سوى متاع رخيص لا قيمة له لدى عموم تركيا، وهم مجرد أداة يتلاعب بها أردوغان مرة للحصول على أموال أوروبا باعتباره يحافظ على أمنها، ومرة عبر ابتزازها بضخ مئات الآلاف إلى أراضيها وتصدير المتاعب إليها. وفى الداخل التركى هم مستهدفون ومعرضون للإهانة والترويع والقتل وتخريب ما لديهم من متاع بسيط، ناهيك عن حملات الدعاية المضادة المناهضة لكل ما هو سورى والشائعة ليلاً ونهاراً فى الإعلام الأردوغانى، ما يجعل الأمر كله درساً بليغاً، فلا ثقة فى قائد خادع يتلاعب بالعهود، ولا أمان فى منظمات خائنة، ولا حياة كريمة إلا فى حضن الوطن.
متاعب وفشل الحملة التركية يقابله صمود سورى يستحق الإشادة والتأييد والدعم، فبالرغم من كل الخسائر المادية والبشرية واستمرار القتال طوال تسع سنوات، ما زال الجيش الوطنى السورى، وبدعم روسى، يحقق تقدماً فى خطة تحرير الوطن وتخليصه من جماعات إرهابية تنثر الفساد وتعيث الخراب فيما بقى لها من مناطق تحتلها تركيا، وبالطبع يمثل وجود قضية وطنية وإيمان بالحق فى تحرير الوطن، الفارق الرئيسى بين دوافع الجيش السورى فى التضحية والقتال والصمود، ودوافع قوات الاحتلال التركى والجماعات العميلة، حيث أوهام الخلافة وسطوة حكم الفرد وتضييع ثروات البلاد فى مغامرات خائبة.
مأزق أردوغان تؤكده حملاته الكاذبة وتهديداته الكلامية الفارغة، فلو صدق ما قاله وزير خارجيته حول الخسائر التى منى بها الجيش السورى فى يومين فقط، والتى زعم أنها أنهت حياة أكثر من 2500 جندى سورى، وأتلفت مئات الدبابات والمدرعات ومخارن الذخيرة وأعداداً من المروحيات والطائرات، لما بقى فى الجيش السورى من يقاوم ويصمد ويفشل مخططات الإرهابيين. وحتى أعداء سوريا ممن يعتبرون أنفسهم مقاومة مشروعة نفوا تلك المزاعم ووصفوا التصريحات التركية بالكذب. والصحيح أنه حدثت خسائر لدى الجيش السورى، وهى أقل بكثير مما تم زعمه، ولم تمنعه من استرداد سراقب وقرى عديدة من ريف حلب الشمالى وأوقف التمدد التركى، وظلت ثمانى نقاط مراقبة تركية تحت الحصار الشامل، الأمر الذى دفع أردوغان للصراخ والاستغاثة عدة مرات بالرئيس بوتين.
موسكو وإن كانت تعمل على استمرار التواصل مع أنقرة، ويعلن رئيسها بوتين أن لا نية لبلاده فى الحرب مع تركيا، وجل مسعاه أن يمنع الآخرين من التفكير فى حرب مع روسيا، تصاحب هذا الموقف بأمرين جوهريين، أولهما الاقتناع الكامل بحق الجيش السورى فى مواجهة مجموعات الإرهابيين المدعومين، والثانى أن وحدة سوريا أمر متفق عليه مع تركيا ويجب احترامه. ومجمل الموقف الروسى يصب فى دعم ومساندة العملية العسكرية السورية لتحرير إدلب ومد السيادة عليها. لكن الأمر من الناحية العملية وفى ظل الظروف المعقدة القائمة بالفعل، وأبرزها الاندفاع العسكرى التركى للسيطرة على إدلب وحماية الجماعات الإرهابية فيها، يتطلب أحياناً تراجعات ربما يمكن وصفها بالتكتيكية، كوقف تشغيل المضادات السورية للصواريخ والأهداف الطائرة فى حدود منطقة شمال سوريا، ما يسمح للطائرات التركية المسيرة الثقيلة المليئة بالصواريخ الموجهة والتى تماثل الطائرات الحربية من طراز إف 16 وغيرها، بالهجوم على الجيش السورى وتكبيده خسائر فى الأفراد والمعدات ومخازن الأسلحة. ولو أن التصرف الروسى شمل تشغيل منظومات المضادات الصاروخية فى الشمال السورى لتغير الأمر كلياً، ولفسدت الحملة التركية حتى قبل أن تبدأ.
ومن المهم ملاحظة أنه رغم الخسائر التى منى بها الجيش السورى، إلا أنه استطاع استعادة السيطرة مرة أخرى على المناطق نفسها التى تمدد فيها المحتلون الأتراك، وأبرزها سراقب وقرى عديدة من ريف حلب، والتى استهدف جيش الاحتلال التركى إفساح المجال للمرتزقة والإرهابيين أن يصمدوا فيها، وأن يُفشلوا التقدم السورى. وفى ظل هذا الكر والفر سيلتقى بوتين وأردوغان فى موسكو، والهدف المشترك هو تقليل فرص الاحتكاك أو المواجهة المباشرة بين قواتهما. والمرجح أن يكون لقاء صعباً، وسينتهى إلى وضع ضوابط جديدة فى ضوء الخريطة الجديدة لانتشار القوات السورية فى مناطق مختلفة من إدلب، وبعضها يحاصر تماماً بعض مواقع تمركز القوات التركية، وقد تتضمن تلك الضوابط هدنة لوقف إطلاق النار لإجلاء القتلى من الجانبين وتمرير بعض القوافل الإنسانية. ومع ذلك وفى ضوء العامين الماضيين وخبرة نقض العهود التركية، فلن تصمد تلك الضوابط كثيراً، وستعود المواجهات أقوى مما كانت عليه.