مصر تتعافى، قوتها الناعمة بدأت تعمل، ببطء أحياناً، لكنها تأتى بنتائج معقولة ومبشرة فى الآن ذاته. القوة الناعمة هنا هى الميراث الحضارى الكامن فى شرايين المؤسسات الرئيسية، هى القدرة على التأثير فى الآخر بالجهد والعمل، وقبل ذلك بالفكرة الواضحة، وبالرسالة التى لا تخطئ الهدف. فى تحليل قوة الدولة هناك قوة صلبة، لمصر نصيب جيد منها فى مجال القوة العسكرية، وأيضاً نصيب غائب كما هو الحال فى القوة البشرية والاقتصاد الذى تراجع أداؤه كثيراً فى السنوات الثلاث الماضية. وهنا تبدو معضلة القوة الصلبة لمصر، حيث يختلط الجيد بالضعيف.
أما القوة الناعمة فهى التى تعوّض مكامن الضعف العام، وترتبط أساساً بالمؤسسات والأدوار الواضحة. والمؤسسات شأنها شأن الكائن الحى، تتعرّض لانتكاسات وهزات وتراجعات، ولكنها تظل تعمل إلى أن تتغير البيئة المحيطة، فتستعيد قوتها وتألقها وريادتها. كثير مما سأشير إليه قد يمر عليه كثيرون باعتباره تحصيل حاصل، أو لا معنى له. الأمثلة على استعادة العافية نسبياً لقوة مصر الناعمة كثيرة. هناك نجاحات نراها تتأكد فى الواقع كفيلة بالرد على المرجفين والمتآمرين على الدولة المصرية، وكفيلة أيضاً بأن تدفعنا كشعب وكمجتمع إلى التفاؤل بشأن الغد القريب.
فى الأيام القليلة الماضية اجتمعت عدة نجاحات، أو لنقل بداية لنجاحات مهمة سيكون لكل منها أثر كبير على العملية الكبرى التى نلخصها فى إعادة بناء مصر جديدة. نجاحات ارتبطت أساساً بأداء مؤسسى بالدرجة الأولى. أشير أولاً إلى الجهد المخلص الذى بذله رجال الأزهر الشريف بقيادة شيخه الأكبر الإمام أحمد الطيب فى وأد الفتنة والجريمة الكبرى التى جرت فى أسوان بين أبناء العمومة الهلالية والدابودية حسب تعبيرات الإمام الأكبر، وهو الذى أشرف على حقن الدماء ووضع قواعد للمصالحة والتعويض والمحاسبة للمخطئين واستعادة روح الأخوة بين أبناء عمومة ليس لهم سوى التعايش والتسامح المتبادل. هنا يقدم الأزهر الشريف المثل الصارخ على الفعالية، استناداً إلى تاريخ طويل من العطاء والتمسك بصحيح الدين الإسلامى ووسطيته وتسامحه.
النموذج الثانى يتلخص فى نجاح الشرطة المصرية فى كشف معظم خلايا التنظيم الإرهابى المسمى بيت المقدس، واعتقال رأسه المدبر الإرهابى هارون بكرى، وهو التنظيم المسئول عن العمليات الإرهابية ضد الجيش والشرطة، سواء فى سيناء وفى الكثير من المدن الكبرى فى وسط البلاد، والذى صنفته عدة دول كالولايات المتحدة وكندا وبريطانيا كتنظيم إرهابى بامتياز. أما النموذج الثالث فهو التحول الإيجابى النسبى فى المواقف الأوروبية تجاه التحولات المصرية بعد 30 يونيو الماضى، كما عكسته زيارة مفوضة الاتحاد الأوروبى كاترين أشتون الأخيرة، وقبول الإرادة الشعبية المصرية فى الإطاحة بجماعة الإخوان الإرهابية. ويلحق بهذا قرار الحكومة البريطانية بالتحقيق فى أنشطة جماعة الإخوان على الأراضى البريطانية، الذى دفع الجماعة إلى نقل مقرها من لندن إلى بلدة جراتس النمساوية، وهو التطور الذى يواجه برفض من النمساويين والجالية المصرية هناك، الذين يرفضون إيواء جماعة متهمة بالإرهاب على أراضيهم.
وأخيراً النموذج الرابع وإن كان يمثل توجهات أولية ولكنها مهمة وتتطلب جهداً متتابعاً لتأكيدها وتحويلها إلى مواقف دولية واضحة وصارمة، وأعنى هنا موقف الجمعية الدولية للأنهار التى نشرت تقريراً موثقاً حول مخاطر سد النهضة بالطريقة والأسلوب اللذين تتمسك بهما الحكومة الإثيوبية، والقائمين على الغموض وعدم الشفافية بشأن مواصفات السد وغياب الدراسات الفنية السليمة والتعتيم على سبل مواجهة المخاطر المحتملة إن تعرض السد لمكروه بعد ملء البحيرة الخاصة به بالكمية المستهدفة بـ74 مليار متر مكعب. وهو التقرير الذى ينصف الموقف المصرى دولياً، ويضع قيوداً معنوية على حركة أى دولة قد تفكر فى تقديم العون المالى والفنى لإثيوبيا لاستكمال بناء السد بمواصفاته الخطيرة الراهنة.
هذه النماذج الأربعة هى نتاج لجهد مؤسسى مصرى، فى شق كبير منه مدعوم بتحركات شعبية وتأييد الرأى العام والمجتمع المدنى. والمؤسسات المعنية هى الأزهر والشرطة والخارجية المصرية ومعها أجهزة الأمن القومى، وهى مؤسسات تتشارك فى أربع سمات كبرى، أولاها أنها مؤسسات تعمل لصالح الدولة والمجتمع ككل، وثانياً تبتعد عن الحزبية والفئوية، وثالثاً يعلو فيها الأداء المهنى الاحترافى، ورابعاً يقدم العاملون فيها تضحيات كبرى من أجل الوطن ككل. وهى المؤسسات التى نالت قسطاً كبيراً من محاولات الهدم والتشويه على يد الجماعات الفوضوية والإرهابية فى السنوات الثلاث الماضية، باعتبار أن هدم هذه المؤسسات وتحويلها إلى مؤسسات صورية يغلب عليها الأداء الحزبى أو الفئوى سيؤدى إلى تحقيق الهدف الأكبر، وهو القضاء على الدولة المصرية ذاتها لصالح قوى إقليمية تدرك أن علو مكانتها مرهون بدرجة كبيرة بتقزيم مصر ودورها ومكانتها.
اللافت للنظر هنا أن هذه النجاحات النسبية تحدث فى ظل غموض كبير حول التوجهات الأساسية للدولة المصرية. صحيح لدينا توجهات عامة مقبولة من الأغلبية الساحقة بشأن ضرورة بناء دولة حديثة عصرية ديمقراطية متوافقة مع هوية المجتمع الحضارية والدينية، لكننا نشعر جميعاً بحالة فراغ نسبى بسبب غياب الرئيس المنتخب والحكومة التى تعمل فى ظل برلمان منتخب ورقابة برلمانية، وهو الشعور الذى يجعل المصريين جميعاً فى حالة ترقب وانتظار لما ستأتى به الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلتين. ولذا لا يقدر الكثير من المصريين الأدوار التى تقوم بها المؤسسات الرئيسية للدولة، والتى دونها تفقد الدولة المصرية ترابطها وتماسكها وتتعرّض إلى ما لا يحمد عقباه.
والمؤكد أن وجود رئيس منتخب، له رؤية واضحة بشأن مستقبل مصر والآليات المناسبة لتحقيق هذه الرؤية، وقادر على تحفيز المجتمع وهمة أفراده، ويحدد لكل دوره ويسهر على تحقيق الأهداف المرحلية والعملية تباعاً، سيؤدى إلى تعزيز مجمل القوة الناعمة لمصر ومؤسساتها وأفرادها. وإذا كنا نرى الآن تحركات وجهود مؤسسات الدولة المصرية مدفوعة بتراثها وتقاليدها وميراثها الوطنى والحضارى وبجهود أفرادها وخبراتهم الذاتية، فمما لا شك فيها أن هذه التحركات إن وُضعت فى سياق رؤية كلية مدعومة شعبياً وقائم على تنفيذها رئيس منتخب، ستؤدى إلى نتائج أكثر انتشاراً وأكبر تأثيراً.
دعونا نقدر ما لدينا من رصيد مجتمعى ومؤسسى، ودعونا ندعم نجاحات أى مؤسسة تعمل لصالح الوطن والمواطنين، ودعونا نتلمس الأشياء الجيدة ونبنى عليها دون مبالغة أو تهوين، فالشعوب تتقدم بكثير من العمل الجاد والمخطط، والمصحوب أيضاً بالتفاؤل والأمل.