فى المُلمات والأزمات، يتكالب الناس على المعلومات، يتلقفونها من هنا أو هناك، لا يهم المصدر ولا المرجعية، فالتلهف على العلم بالشىء أهم بكثير من معرفة مصدره، وهى ظاهرة ليست فى مصر فقط، ولا عند المصريين دون سواهم، وإنما هى فى الأغلب فى كل مكان، ما وُجد الناس وتواصلوا.
هى الرغبة فى المعرفة وفك طلاسم الغموض منذ أطل الفيروس برأسه بيننا، وبدأ فى إصابة أهالينا، بادر الناس لتلقف المعلومات، ومحاولة تحصيل أى معرفة عن هذا الغامض المجهول، خشية منه وتحسباً للإصابة به، ولما كانت المعلومات قليلة، وكانت الأخبار شحيحة، والعلم بالمستقبل غير واضح، فكانت الكلمة السحرية «بيقول لك».
وللمفتاح السحرى «بيقول لك» أصل فى الثقافة المصرية، وخصوصاً بين دهاليز وممرات البيروقراطية المصرية، وهى من المرجعيات الأساسية لفك طلاسم وغموض الكثير من القرارات الإدارية غير المفهومة، ومن الألفاظ ذات المصداقية العليا فى الاجتماعات الإدارية.
«بيقول لك» القرار ده صدر لتفسير نص القانون، وبالتالى «بيقول لك» إن التفسير هو كذا وكذا وكذا، ما إن ينطق كبير الموظفين بكلمة «بيقول لك» يتم اعتماد التفسير فوراً، سواء كان صحيحاً أم خاطئاً، والغريب والمثير أن واحداً من الجلوس لا يسأل السؤال المنطقى والطبيعى.. مين اللى بيقول لك؟
ثقافة «بيقول لك» تطورت وانتشرت مع مرور الزمن، ولم تقف عند حدود البيروقراطية وزمرة البيروقراطيين، إنما امتدت إلى باقى جموع الشعب وتجمعاتهم، وأصبحت جزءاً من ذهنية وثقافة المصريين، يرددونها ويستخدمونها بغزارة، حين تصطدم رواياتهم بجدار المرجعية، فلا يجدون بديلاً سوى أن يبدأ أحدهم كلامه بمقولة «بيقول لك».
هكذا أصبحنا نستخدم «بيقول لك» فى كل شىء، وتحولت من كلمة اعتراضية، أو من تفسير تبريرى غير مدعم بدليل، إلى مرجعية أساسية فى حياتنا، وجزء من دليلنا على صحة ودقة ومصداقية ما نردده من مقولات أو معلومات بعضها وأحياناً أغلبها للأسف غير صحيح.
ليس صحيحاً أن كل ما يردده الناس شائعات، فهناك البعض مما يقولونه مرتبط بالجهل بالشىء وعدم العلم به، وهناك فكرة تلمس المعلومة من أى مكان، ولدى النخبة على وجه الخصوص تتراوح بين الوجاهة والادعاء العلم بالشىء كجزء من الثقافة والمعرفة، أو الخلط بين المعلومة والواقع وبين الرغبة الشخصية فى تحقق شىء ما، لا يستطيع الشخص تحقيقه فى الحياة.
نحن أمام ظاهرة طبيعية، فى الأغلب هى منتشرة بين البشر، لكنها تتغذى أحياناً على أهداف سياسية يسعى أصحابها إلى تدمير المجتمع، فى إطار الخلط بين ما هو مشروع فى الصراع السياسى وما هو محظور، لأن تدمير الأوطان لا يضر بالحاكم وفقط وإنما يضر كذلك بالمحكوم وحتى بمن يخطط لهذا التدمير.
وفى ملف كورونا ظهرت وبشدة «بيقول لك»، ولأن نسبة ضخمة من المصريين مهنيون أو عمال بحرف مختلفة، فقد مرت عليهم مقولة «بيقول لك» كثيراً، وهم فى الأغلب جزء منها، ومع صعوبة تدفق المعلومات عن كورونا مبكراً، لعبت ثقافة بيقول لك دوراً مهماً فى الترويج لمعلومات خاطئة، وتمرير أكاذيب وشائعات، ليست فقط على المرض والفيروس وكل ما يحيط به، وإنما فى حياتنا اليومية، والقرارات ذات الصلة بكورونا.
أصبحا نعيش أسرى «بيقول لك»، ومنها بيقول لك الدراسة لن تعود، أو بيقول لك الامتحانات فى مخصصات التيرم الأول، ومنها ما يصل إلى لُب حياة الناس اليومية، مثل بيقول لك ستُفرض قيود على الحركة، وهكذا يخلط الناس بين ما سيحدث فعلاً وبين استدعائه مبكراً لإصابة الناس بالحيرة والارتباك وإشاعة الفوضى بينهم.
المثير أن الحكومة خلال الأسبوعين الأخيرين بادرت بشفافية شديدة للتعامل مع الموقف، بعد أن بلغت الأمور نقطة لا يمكن تجنبها أو تجاهلها، وصارت المعلومات متداولة بكثافة وسهولة، وتستطيع الحصول عليها بكل يُسر عبر مختلف صنوف وسائل الإعلام، ولم يعد هناك ما يمُكن إخفاؤه مع تنوع وتعدد الوسائط الإعلامية الصديقة والعدوّة قبلها، وهو ما أدركته الحكومة وتعاملت معه بجلاء، فكان متصوراً أو متوقعاً أن تتراجع ثقافة «بيقول لك» وتتوارى خجلاً.
لكن الحقيقة أن «بيقول لك» ما زالت قوية جداً، ومتغلغلة فى عقول وذهنية الناس، وما زالت كذلك الثقة بمصداقية الحكومة وشفافيتها بعافية شوية، وهى أمور تحتاج إلى وقت، ووقائع وأحداث عديدة، حتى تتغير ثقافة استقرت لحقب وعهود طويلة.
بيقول لك لو استمرت الحكومة على شفافيتها وتواصلها مع الناس بهذه المصداقية العالية ستتبدل ثقافة المجتمع ولن يبقى سوى أهل الشر فقط هم الذين سيرددون «بيقول لك».