الآن وقد وصلنا إلى المرحلة الثالثة فى مواجهة «كورونا» نطرح السؤال الذى قد يبدو للبعض مثالياً بينما سيعتبره آخرون واقعياً وربما يراه فريق ثالث ضرورياً وحتمياً وهو: كيف يمكن الاستفادة من الفيروس اللعين وتحويله أثناء المواجهة معه من نقمة إلى نعمة؟ أى كيف يمكن تحويل هذه المعركة إلى إيجابيات تستقر فى مجتمعنا وبلدنا بعد الانتصار القادم حتماً بإذن الله على «كورونا»؟!
كثيرون لا يتوقفون عن انتقاد سلوكيات عديدة لفئات عديدة من شعبنا، وكيف يقفون حجر عثرة فى سبيل التقدم عموماً أو فى سبيل محاصرة الفيروس خصوصاً، وغيرها من الانتقادات والملاحظات دون أن يسأل أحدهم نفسه عن الأسباب التى أوصلتنا إلى هذه المرحلة.. وهل هذا هو شعبنا الذى واجه تحديات عديدة كبرى فى تاريخه نجح فيها جميعاً؟ أم أن تطوراً سلبياً طرأ عليه؟ هل هذا هو الشعب المصرى المسجلة حياته وسلوكياته بل وهيئته وهندامه وأذواقه فى السينما المصرية والدراما التليفزيونية، بل وفى المناسبات الأخرى كحفلات أم كلثوم ومباريات كرة القدم، كما سجلت لنا الكاميرات سلوك وشكل المشجعين بمدرجات استاد القاهرة فى الستينات؟ هل هو نفسه شعبنا؟ هل هو نفسه الذى يحيى العلم ويهتف لبلده فى الصباح «الله أكبر فوق كيد المعتدى» ويجمع طوابع البريد ويتقاسم الطعام مع جيرانه ويحافظ على بنات منطقته ويحميهن ويحافظ عليهن، والفارق واضح جداً لا يقبل أى لبس بين زى الشاب وزى الفتاة؟ هل هو نفسه الذى تجمع أسماء أولاده بين المسلمين والمسيحيين مثل سمير وعادل ونبيل وأشرف وشريف ونادية وسامية وعفاف حتى لا تعرف لأى دين ينتمون إلا إذا طالعت البطاقة الشخصية؟ أم أن تحولات كبيرة جرت، وهى جرت حتى قبل التطورات التكنولوجية من الإنترنت وغيره وقبل التواصل الاجتماعى كله، وسجلت سينما أواخر السبعينات والثمانينات حتى الألفينات ملامح التغير من أفلام الجوع وحب فى الزنزانة والغول والكداب وحتى لا يطير الدخان وهنا القاهرة وآخر الرجال المحترمين وانتبهوا أيها السادة.. ولذلك تبقى أولى مراحل علاج أى مرض هى الاعتراف بوجوده أولاً ثم تحديد شكله ثانياً ثم معرفة أسبابه ثالثاً!
وعلينا الاعتراف أن تقليص دور الدولة المصرية وواجباتها تجاه شعبها، الذى أدى إلى تراجع دورها فى تشكيل ثقافته ووعيه وبالتالى سلوكه وتصرفاته هو السبب، الذى بدأ فى مصر ما بعد الانفتاح وانطلق فى النصف الثانى من السبعينات وتقلصت بعده مخصصات الثقافة الجماهيرية ومسرح الدولة والإنتاج الفنى للدولة المصرية بعد إلغاء المؤسسة العامة للسينما، بما أتاح للجماعات المتطرفة أن تملأ هذا الفراغ بأفكارها هى وبالتالى بثقافتها هى، ومع تعليم متراجع وخدمات صحية متراجعة استغلتها هذه الجماعات لتقدم هى دروس التقوية والخدمات الصحية الخيرية، وتسلل معها تجار الفن ممن لم يعنهم إلا ثروات طائلة تتزايد فى حساباتهم، وفى كلا المسارين فرضت الجماعات الإرهابية وتجار الفن «ثقافتهم» و«أفكارهم» على المجتمع، ومع دخول الأمريكان على خط تطوير التعليم ونصائحهم بإلغاء الالتزام المدرسى فلا حضور ولا انصراف ولا تنمية حقيقية، وبالتالى لا بناء جديد للمدارس بالشكل الكافى، وبالتالى صارت العملية التعليمية لأداء الواجب فقط لكن لا تعليم حقيقى للتلاميذ، فتحولت الدروس الخصوصية إلى واقع طاغ على الجميع وتراجعت نسب الحوار بين التلاميذ والمدرسين، وبالتالى انتهت التربية وانتهى التوجيه واختفى الأخصائى الاجتماعى وانتهت حصص الموسيقى واختفت حصص الخط والرسم واختفى المسرح المدرسى، ومع دخول التجار إلى خط الإنتاج المدرسى اختفت الإرشادات الأخلاقية التربوية من أغلفة الكراسات والكشاكيل المدرسية، رغم دورها فى توعية جيل وأجيال كاملة والتأثير فيها!
الموضوع طويل وجرى فيه ما جرى وأوصلنا إلى السلوكيات الحالية من عدم الاعتناء بالشكل المنطقى بالنظافة ولا بالنظام ولا بالتعامل مع الآخرين ولا بالتصدى ذاتياً للثقافات والتقاليع الواردة، وها هى الفرصة جاءت على «الطبطاب» كما يقولون لإعادة صياغة عقل شعبنا، وبالتالى إعادة صياغة وعيه وسلوكه.. ها هو شعبنا فى المنازل.. لا عمل ولا دراسة.. وها هو أمام أجهزة الإعلام يشاهد ويسمع ويقرأ ويتابع.. ويشاهد ويسمع ويقرأ ويتابع المعركة مع مرض صعب وتحد كبير، النظافة والسلوك القويم والقيم الصحيحة جزء من التصدى له وهزيمته، وها هى وزارة التربية والتعليم تخاطب أبناءها بوسائلها وهم بالمنازل، والفرصة سانحة تماماً للخروج بشعبنا عقب انتهاء الأزمة بشكل مختلف عما دخلناها به، وأن نستقبل شعباً جديداً بعد انتهاء الأزمة.. شعب أو فئات عديدة منه تمارس السلوك الطبيعى للإنسان الطبيعى فى سلوكه اليومى.. نظافة.. نظام.. يغسل يديه قبل الأكل وبعده.. سعاله فى منديل.. عطسه فى منديل.. لا يبصق على الأرض ولا أمام الناس ولا أثناء طعامهم ولا يصدر صوتاً أثناء ذلك.. يغسل أسنانه إن تيسر ذلك صباحاً ومساء.. لا يرفع صوت التلفاز ولا المذياع حتى لا يزعج جيرانه، ولا يستخدم كلاكس السيارة بدون داع إلى آخر السلوكيات التى غابت عن مجتمعنا!
كيف يمكن أن يحدث ذلك وقد آثرنا أن نكتبه بالعامية حتى يشعر به القارئ؟ يمكن جداً بوضع خطة له من الحكومة ومنها إلى وزارة وهيئة الإعلام وإلى التربية والتعليم ووزارة الثقافة ووزارتى الشباب والأوقاف، ومن كل هؤلاء إلى مختلف وسائل الإعلام ومنها إلى شعبنا! قد لا تتغير سلوكيات كل الناس.. قد لا تصل التغيرات إلى تحسن علاقات الناس ببعضهم.. قد لا نصل إلى القضاء على حالة الاستنفار العصبى الموجودة بالشارع.. وتحولها إلى معارك كلامية واشتباكات بالأيدى عند أقل احتكاك.. لكن على الأقل نكون بدأنا مشروعاً قومياً كبيراً لإعادة بناء الإنسان المصرى، وحتماً سيتأثر البعض، وهذا البعض يمكن جداً البناء عليه بأى نسبة كانت!
اللهم بلغت.