حديث القلوب أنواع عديدة؛ فهناك الخاص والعام؛ الأول عندما تغلق جميع الأبواب والتدخلات والمناقشات والمناوشات على قلب واحد فقط ويعيش حواراً خاصاً جداً يلعب فيه دوراً مزدوجاً فيكون السائل والمجيب والغاضب والسعيد، وصاحب الفكرة ومن يقاومها ويرفضها ويصر على نبذها والقضاء عليها، والمتشائم والمتفائل والضاحك والباكى، وفى هذا الحوار لا يعلم أحد غير صاحبه نتائجه أو الزمن الذى استغرقه أو حتى مكان انعقاده وحيثيات القرارات التى انتهى إليها. أما النوع الثانى وهو ما نعيشه حالياً حيث أدخلنا القدر بجنسياتنا المختلفة ودياناتنا ولغاتنا وألوان بشرتنا المتعددة وملامحنا العربية والأوروبية والآسيوية والأفريقية، بعيوننا السوداء التى فتنت الشعراء، والأخرى الخضراء وصاحبة زرقة السماء والبنية واللوزية والهلالية والدقيقة -أدخلنا جميعاً- للحوار على مائدة مستديرة تساوينا فى ارتفاع المقاعد وبراحها ولم نجد لها رأساً ولا ذيلاً فتساوت الرؤوس وبدأ الحديث. وآه منه حديث وألم وشجن وحرمان ودموع فراق وشوق وحنين ونغزات قلق وخوف مما هو آت وتمنٍّ لو يعود الزمن قليلاً للوراء. اشتقنا جميعاً لحياة طالما تذمرنا منها وأطلقنا العنان لأحلامنا وخيالاتنا لرسم خريطة حياتية تختلف عما كنا فيه. تمنينا وتزاحمنا على عقود العمل والغربة والرواتب الدولارية والبعد عن الأحبة والأبناء وقضاء الليالى فى وحشة ووحدة وصمت بحجة الرزق الوفير وتركنا ذكرياتنا ومنازل طالما شهدت أفراحاً وأحباباً ولقاءات وامتلأت ضحكات وأصوات وأغنيات وموسيقى تعلن المناسبات السعيدة. تركنا كل هذا معتقدين أن كل شىء سيبقى فى وضع الانتظار حتى نعود. إلا أن الصورة اختلفت تماماً فى تحول سريع غريب مفجع للجميع. وبعد أن كانت جلساتنا الرسمية ومؤتمراتنا وجمعياتنا العمومية بداية من الأمم المتحدة مروراً بالجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجى والاتحاد الأوروبى ومجموعة الـ٧٧ ودول حلف الأطلسى وحلف الناتو تنتهى بعدم الاتفاق والتأجيل والمناوشات والصفقات غير الشرعية والجور على الضعيف ورفض العضويات والعقوبات الاقتصادية والقروض وإغلاق الحدود أمام اللاجئين وإصدار قوانين الجنسية الظالمة ومنع لم الشمل وإسقاط الجنسيات وبناء مستوطنات وطرد أصحاب الأرض الحقيقيين ومنع الصلاة فى المسجد الأقصى واعتقال الأطفال وحرق قلوب الأمهات وتعليق المساعدات ورفع سعر البترول وانهيار البورصات العالمية ورفع سعر الفائدة على القروض وهى فى حقيقتها أسوأ أنواع الربا والفحش. تحول الحوار فجأة بعد أن أسقط القدر الزعامة عن أصحابها كما أسقط تيجان الملك الزائف عن الرؤوس ليبدو لأول مرة أن هناك توافقاً فى الآراء وتوحداً بين الأهداف وامتدت الأيدى لتتصافح وفتحت الخزائن لتمنح من يريد دون فوائد أو شروط أو قيود ورحبت الجامعات ومراكز الأبحاث والمدن العلمية بجميع العلماء دون قيد أو شرط أو جنسية محددة أو وعد بالبقاء لعشر سنوات لتحصل منه على ثمن النجاح أو الشهرة وأصبح الشرط الوحيد أن يكون ذا فكر وخبرة ورغبة أكيدة فى المقاومة والقضاء على ذلك الألم الجماعى. ويبدو أن الجدران العازلة التى أقمناها والحدود المزيفة التى رسمناها وقوانين الهجرة الغائرة التى أعدها وأقرها رجال قانون يرتدون ملابس الحكماء وهم أبعد ما يكونون عن ذلك على وشك الانهيار دون حرب عالمية رابعة أو خامسة نووية أو بيولوچية أو علمية لأننا جميعاً أصبحنا على مائدة واحدة مستديرة دون رأس أو ذيل.. حفظكم الله وأحباءكم من الألم الجماعى وقسوته.