أحياناً نسأل أنفسنا أسئلة تبدو سهلة ولكنها فى الحقيقة غير ذلك، ويُلح العقل عليك للحصول على إجابة، وتجد نفسك محتاراً، بين إجابات متعددة، وهو أمر طبيعى كون أى شىء له أوجه عدة وليس وجهاً واحداً، لكنك حين تفاضل فى الاختيار ومحاولة تحديد الأولويات تواجه الصعوبة فعلاً.
فى أول أيام حظر تحركات المواطنين وتنظيم عمل المحال والأنشطة التجارية، اخترت البقاء فى الطريق للمتابعة ومعرفة ما سيحدث، وعلى غير التوقع الشخصى، فوجئت بالتزام غير طبيعى -على الأقل حيث كنت- سواء من جانب أصحاب الأنشطة التجارية أو من المارة، وهو مشهد غير معتاد حتى فى الفجر أو الصباح الباكر، بل إنك تتخيل أنك وكما قال -مدرس الجغرافيا قديماً- تسير فى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء.
لماذا التزم الناس بالقرارات بهذه الصرامة والوضوح؟ هل هى وطأة الأزمة على الناس، وحبهم للحياة والخوف على النفس أو على الأبناء من الموت؟ أم أن شفافية الحكومة فى التعامل مع الكارثة ساهمت فى إقناع الناس بخطورة الموقف ودفعهم إلى الالتزام بالتعليمات والتوجيهات.
المصريون لا يحبون تقييد حرياتهم، وهم لا يتوافقون مع قواعد النظام فى الحياة، ويعتبرون النظام بمثابة قيود، ويفضلون المساحات الواسعة فى الاختيار، حتى ينتقوا ما يتوافق معهم من بدائل مقترحة، وهذه صفات ربما تجدها لدى شعوب كثيرة.
الأمثلة والدلائل على ذلك كثيرة، نراها فى حياتنا اليومية فى الطرق العامة، فى التعامل مع الأماكن العامة، خصوصاً مع الطوابير من أجل التنظيم، أو فى الازدحام والتكالب من أجل الفوز بالمطلوب قبل الآخرين حتى ولو على حساب غيرك، غير الكثير والكثير من الأمثلة الدالة على ذلك.
لكن الأمر كان مختلفاً فى ملمتين أساسيتين لحقتا بنا فى أسبوع واحد، الأولى المتعلقة بظاهرة السيول التى أتتنا من حيث لا ندرى، والثانية مع وباء كورونا، وفى الحالتين كانت السمة الأبرز هى أداء وإدارة الحكومة، وتجاوب والتزام الناس، وأعتقد أنها حالة من حالات التوافق الكامل بين الشعبى والرسمى، التى لا تتكرر كثيراً فى حياتنا.
بالقطع كانت محاولات الاختراق الأمنى قائمة، ومحاولات الاستغلال السياسى الانتهازى من الجماعة الإرهابية واضحة، ومن تحت عباءة الخوف على الناس تسللت من هؤلاء الجهلة الكثير من العبارات التحريضية ومحاولة التقليل والتسفيه من إجراءات الحكومة الاحترازية، بل ومحاولة تحريض الشعب للانقلاب عليها.
الشاهد أن التجاوب مع كل تلك الحالات اقتصر على أذيال الجماعة الإرهابية وعملائها، فى حين التزم المصريون التزاماً صارماً صادقاً فى أغلب الحالات، ثم بكل الإجراءات ثقة واقتناعاً بأن الالتزام هو السبيل الوحيد للمرور من هذه الضائقة.
حب المصريين للحياة لا يعنى أبداً كراهية الموت، فللموت حُرمة عند المصريين واحترام وتقديس منذ قديم الأزل ولا يزال، وهو ما يعنى أن حالة الالتزام التى عشنا جميعاً فى إطارها ارتبطت بالكثير والكثير من المعانى وتعكس دلالات عدة، ليس من بينها الخوف من الإدارة أو من الحكم، كما يحاول البعض الترويج.
لقد وجدنا أنفسنا فجأة أمام اختيار جاد وحقيقى، لا أعتقد أننا واجهنا مثله منذ زمن بعيد، فنحن أصحاب الاختيارات السياسية والانتماءات الاجتماعية والوطنية عبر تاريخنا، لكننا لم نعايش وباء بسبب فيروس يتلاعب بحياة الناس كيفما شاء وعجزت عن مواجهته، كل ما ورثته الحضارة البشرية من إمكانات وعلوم وتكنولوجيا.
ظنى أن انتماء المصريين لمعسكر الالتزام بهذه الطريقة الصارمة الجادة، يعكس اختياراً جديداً فى مواجهة تحد مختلف، يضع حداً فاصلاً بين الموت والحياة من جهة، ويضع الدولة نفسها فى مواجهة الانهيار -لا قدر الله- جراء تداعيات استمرار الأوضاع القائمة عالمياً ومحلياً.
أى حكومة فى العالم تتمنى دوران العجلة التجارية 48 ساعة يومياً وليس 24 ساعة فقط، وهى الأكثر تضرراً من أى توقف يلحق بهذه العجلة، وهى تبذل كل جهودها من أجل تحريك الأموال فى الأسواق، وليس من مصلحتها إبطاء أو تعطيل النشاط الاقتصادى، ومن هنا كان تفهم الناس، لأن الإجراءات والقرارات الأخيرة ما كانت لتصدر إلا لأسباب حقيقية وجادة، تتطلب الالتزام بها والتعاون مع الدولة للمرور من الضائقة.
صحيح أن الحالة جديدة على المصريين، لكن انتماء المصريين لدولتهم الوطنية فى الملمات ليس بجديد، وإنما هو سلسلة طويلة من الوقائع عبر مختلف العصور، وفى مواجهة مختلف التحديات، الوطنية والسياسية. لقد أكد الناس قبولهم للتحدى بكل ما يعتريهم من مخاوف ورغبات، وانحازوا للدولة فى إجراءات الحماية المطلوبة، بعد أن اتخذت كل ما ينبغى من سياسات وقرارات وإجراءات لتوفير الحماية ومواجهة الوباء، وتبقى لنا رحمة الله بنا.
«اللهم اهدنا فى من هديت وعافنا فى من عافيت وتولنا فى من توليت وبارك لنا فى ما أعطيت وقنا شر ما قضيت».