الأيام الأولى من تطبيق حظر التجوال الجزئى تشير إلى نجاح «شبه مبهر». ثبت بالحجة والبرهان - على الأقل فى الأيام الأولى- أننا قادرون على التنسيق والتنظيم والتخطيط والتفعيل والتشبيك وكل ما من شأنه ضمان نجاح حظر وجود المواطنين فى الشوارع. هذا النجاح الكبير جداً الذى يحسب لحكومة الدكتور مصطفى مدبولى بأذرعها المختلفة، سواء الفكرية أو الإعلامية أو التنفيذية أو التخطيطية، يعنى أننا قادرون طالما نحن راغبون.
يسمون الرغبة مع القدرة على تفعيل القرارات «إرادة سياسية». وهذه الإرادة باتت على أقرب ما يكون إلى «الكليشيه» المعاد المكرر خالى الدسم منزوع المعنى. يذكرنا بهذا الخبر العجيب فى صدر نشرات الأخبار الذى يفيد بأن «الرئيس تلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس فلان، وأن الرئيسين تباحثا فى العلاقات بين البلدين». خبر مهم لكن بلا محتوى. هذه المرة، يفرض مفهوم «الإرادة السياسية» نفسه علينا ويبرهن قدرته على الخروج من حيز «الكليشيه» الضيق إلى فضاء التطبيق والتفعيل الواعد.
وهذا وعد حق.. بعد انتهاء أزمة «كورونا» إن شاء الله بأقل خسائر ممكنة، وبعد تصفيق حاد من القلب قبل اليدين لأداء الحكومة المنضبط المخطط المدبر، سنطالبها بتمديد الوعد وتوسيع قاعدته وتعميمه كمنهج لأدائها. فقد فتح النجاح المبهر شهيتنا للمزيد. أداء الحكومة الذى تم التخطيط له بشكل ممتاز، سواء من حيث التدرج فى اتخاذ إجراءات الإغلاق أو تنسيق مواعيد عمل المحلات أو تخفيض أعداد الموظفين والموظفات أو تدبير احتياجات المواطنين من السلع الغذائية واستمرار عمل الصيدليات والمخابز أو حزمة قرارات تأجيل مواعيد سداد الأقساط والمدفوعات أو حملات التوعية والإعلام والإشهار الخاصة بالفيروس، بالإضافة إلى مغبة التجمعات على صحة المواطنين وأحبائهم أداء يعنى أن الحكومة قادرة، وأن الدولة متمكنة.
تمكن الدولة بالطبع ساعده وعضده أن الحظر هذه المرة ليس بنكهة سياسية، لكنه بنكهة ونبرة ومحتوى صحى بحت. بمعنى آخر، تعلم القاعدة العريضة من المصريين أن الحظر إنما يكون حفاظاً على صحتهم وحياتهم. دعك من تلك العبارات القدرية حيث «أنا ما يهمّنيش الفيروس. لو ربنا عايزنى أمرض هامرض» أو «وهو يعنى الحظر ده هيوقف قضاء الله؟!» وغيرها. فبالطبع كل شىء بإذن الله، والإيمان بالقضاء والقدر أمر محورى. لكن هؤلاء الذين يرددون هذه العبارات - بهدف التعبير عن مقدار إيمانهم العميق أمام الآخرين- لو عطس أو سعل أحد فى محيطهم، سينسون ما قالوا ويطلقون العنان لأقدامهم جرياً وقفزاً.
القفز إلى النتيجة المبهرة حيث النجاح مع مرتبة الشرف حال توافر «الإرادة السياسية» فى مسألة حماية المواطنين من شرور «كورونا» يؤدى بنا إلى المطالبة -بعد انتهاء الأزمة- بتطبيقها على مسائل تتعلق بفوضى الشارع المصرى. هذه الفوضى المتأرجحة بين إلقاء القمامة فى الشارع واحتلال الأرصفة وفرض إتاوات السياس وترك قواعد السير تضرب تقلب وغيرها يمكن ضبطها إذن، ليس فى سنوات ولا أشهر، بل فى خلال أسابيع. وهذه الردود التى دائماً ما تتواتر إلينا إن نحن طالبنا بمنع السير العكس وضبط السرعات ومنع التكاتك والتروسيكلات غير المرخصة بأن ما يجرى هو نتيجة «سلوك المواطنين» لن تكون مجدية أو منطقية، والأهم أنها لن تكون مقبولة. وترك تلال القمامة فى الشوارع وتبريرها بأنها سلوك يعكس عواراً فى مفهوم النظافة لدى المواطنين لن يكون مقبولاً. وترك الشوارع نهباً لسياس يجنون إتاوات ويحولون الأحياء إلى جراجات كبيرة وتفسيرها بأنه «أكل عيش» لم يكن مقبولاً.
حزمة التوعية المكثفة، والإجراءات المتدرجة، والتصريحات الرسمية المحسوبة بالميزان، والحسم دون قسوة، وتطبيق القوانين على الجميع دون استثناءات لابن فلان بك وقريب علان بك، وتشبيك أجهزة الدولة تحت مظلة واحدة تضمن نقلة نوعية للمصريين، شعباً وحكومة وقيادة.
قيادة دولة كمصر، فيها من البشر ما يزيد على 100 مليون، وفيها من الثقافات ما يناطح ألوان الطيف، وفيها من السمات والصفات المتراوحة بين الجدعنة الحقيقية والانفلات السلوكى، والشهامة وقت الأزمات والبلادة فى الأحوال العادية، والإغراق فى التراجيديا مع الإفراط فى السخرية، والخوف من تطبيق القوانين وانتهاز أول فرصة ممكنة لخرقها وكسرها، أمر بالغ الصعوبة. وإذا أضفنا إلى كل ذلك عوامل تاريخية أثرت فينا سلباً وإيجاباً، وهجمات ثقافية مرتدية عباءات وجلاليب دينية طمست جانباً أصيلاً من ثقافتنا وهويتنا، ومرورنا بتحولات كبرى فى أقل من عقد واحد كفيلة بإصابة شعوب الأرض بدوار وغثيان، فإن هذا يؤهلنا لنكون أبطال العالم من حيث قدرتنا الشعبية على الاستمرار وكأن كل شىء تمام.
ما نمر به هذه الآونة ظروف صعبة للغاية، ربما يهون منها نسبياً أننا لسنا وحدنا، بل معنا بقية سكان الكوكب. ولأن كل دولة لها ظروفها وعاداتها وتركيبتها المختلفة، فإننا فى هذه المحنة نحتاج إلى التخلى عن بعض السمات غير المناسبة للظرف الحرج. التحايل على الحظر، التهوين من الفيروس، اعتبار التجمعات ذات الطابع الدينى وقاية من الإصابة وحماية من الانتشار. وأخيراً، تحية كبيرة لمصر، قيادة، وحكومة، وشعباً.