مع تصاعد المخاطر والتكاليف التى تسبب فيها انتشار فيروس «كورونا» فى أصقاع عديدة من العالم، راح البعض يستخدم هذه الكارثة من أجل تحقيق أهداف سياسية وتلبية مصالح ضيقة.
لم يقتصر أمر استثمار «كورونا» على السياسيين المأزومين أو الطامحين إلى إحراز المكاسب، لكنه امتد أيضاً ليشمل جماعات دينية ودعاة وجدوا فى تفاقم تلك الكارثة ميداناً خصباً لممارسة ديماجوجية ممقوتة.
يمكن بالطبع فهم محاولة زعيم سياسى مثل خامنئى الهروب من انتقادات جدية للطريقة التى أدارت بها طهران أزمة «كورونا» والتى تسببت فى خسائر كبيرة، وتحويل الأنظار إلى الولايات المتحدة باعتبارها «الشيطان الأكبر»، الذى أنتج هذا الفيروس عبر تجاربه البيولوجية، إذ باتت هذه صيغة مفهومة للأنظمة ذات النزعة الديماجوجية تمكّنها من التنصل من المسئوليات وإلقاء اللوم على الأعداء عبر استخدام «نظرية المؤامرة».
لكن ما يصعب فهمه حقيقة أن يتم التوسل بتلك النظرية فى تفسير كافة الأحداث التى تجرى حولنا، رغم عدم وجود أدلة وجيهة لدعمها.
«نظرية المؤامرة» موجودة بطبيعة الحال، وثمة مؤامرات وقعت فى التاريخ، ويمكن إثبات أن بعض الدول سعت إلى تطوير أسلحة بيولوجية واستخدمتها، وهناك عداء كافٍ بين الصين والولايات المتحدة يمكن أن يبرر استهداف إحداهما للأخرى، لكن حتى هذه اللحظة لم نجد إثباتاً لكون «كورونا» مخلَّقاً، بل على العكس ثمة جهات موثوقة ومختصة نفت هذا الاحتمال.
وبموازاة الخطاب الديماجوجى لبعض القادة السياسيين فى أجواء أزمة «كورونا» يبرز أيضاً الخطاب الدعوى الذى أراد أن يُفهمنا أن «كورونا» غضب إلهى على البشرية، على الرغم من أن البشرية ليست فى أسوأ أحوالها التاريخية من جانب، وأن كوارث أكبر مرت عليها من قبل من جانب آخر.
ثمة تعريفات مختلفة للديماجوجية ينطلق بعضها من الأصل اللغوى اليونانى للكلمة (قيادة الشعب)، فيما يحصر بعضها الآخر مستخدميها فى الأحزاب والقادة البرجوازيين، ويرى آخرون أن الجمهور المستهدف بها ليس سوى «البسطاء، والأميين، وسكان الأرياف، ومحدودى الثقافة والتعليم».
يحلل الديماجوجى نفسية الجمهور الذى يستهدفه، ويعرف جيداً طبيعته العاطفية، ويتقن اللعب على مشاعره البسيطة، ويتفنن فى مخاطبة هواجسه ورغباته وأهدافه المطلقة.
لا يحب الديماجوجى اللجوء إلى البراهين فى حديثه لجمهوره، وإنما يكتفى عادة بذكر ما يؤكد أنه «حقائق مطلقة»، وهى ليست سوى أكاذيب وضلالات يجمعها من هنا وهناك، ويسبكها فى سياق يبدو متماسكاً، ويصبها صباً فى أسماع جمهوره المتوتر والمشدود والخائف من «الأعداء الخارجيين والداخليين»، أو المنتشى والمهووس بـ«الانتصارات الوهمية».
يعتمد الديماجوجى عادة خطاباً «يشيطن» الأعداء والخصوم، والأخطر من ذلك أنه «يشيطن» أيضاً «الآخرين»، أى الذين لا ينضوون فى جماعته، ويهتفون تأييداً له، ويشبهونه فى طريقة حياته ونظرته للأمور. «يشيطن» الديماجوجى «الآخر»، ويغرى به العوام، وينزع عنه الصفات التى تستوجب احترامه بين «أهله وعشيرته»، ويلصق به كافة الاتهامات والنقائص التى تُنزله المواضع الشائنة، وتُلزمه مقام الوضاعة، وتوجب فى حقه الازدراء والكراهية.
يراوغ الديماجوجى فى استخدام المصطلحات، ويتخير منها تلك التى تتحمل الحمولات الدلالية المتفاوتة، ويتنصل من مسئوليته حيال ما قال، متذرعاً بالتلقى الخاطئ مرة، وبتغير الأحوال مرات، لكن الديماجوجى لا يعترف أبداً بخطئه، ولا بتراجعه عن وعوده، ولا باستخدامه الكلمات المطاطة ذات الطبيعة الملتوية.
لا يقبل الديماجوجى النقد أبداً، ولا يفهم فكرة «انتقاد السياسات»، ولكنه يأخذ كل انتقاد على أنه «مؤامرة خارجية منحطة»، وفى أفضل الأحوال يعتبره «استهدافاً شخصياً مأفوناً»، أو «عداءً غير مبرر من قوم جاهلين».
أخطر شىء فى الديماجوجى أنه يفهم مرتكزات شخصية جمهوره، ويدرك مواضع «أعصابه الثقافية الحساسة»، ويستند فى ممارسته للسياسة إلى «قاعدة مطلقة» دائماً، قد تكون «قومية» أو «دينية» أو «عرقية»، ويُقنع جمهوره بأنه «خير من يمثلها وأصفى تعبير عنها»، ويكرس نفسه لنصرتها والدفاع عنها، ويتوحد معها أمام الجماهير، وحين يوجه خصومه الانتقادات إلى سياساته أو إلى شخصه، يقلب الحقائق تماماً، ويخاطب جمهوره ملتاعاً: «إنهم لا يهاجمون سياستى.. ولا حتى يهاجمون شخصى.. بل هم يهاجمون ما تؤمنون به.. فهل ستسكتون عليهم؟ دافعوا عن إيمانكم.. دافعوا عن أنفسكم.. عليكم بهم».
يجب أن يكون للديماجوجى أعداء فى الخارج والداخل، ويجب أن يكون مشروعه كبيراً باتساع الحلم والخيال، ويجب أن يستغرق زمناً طويلاً لتحقيقه، ويجب أن يعرقله الأعداء عن تحقيق حلمه، و«ستتحالف الشياطين ضده أيضاً»، وسيخفق عادة فى تلبية حاجات الجماهير الملحة والمباشرة، وسيعوضهم عنها بالحديث عن «الأحلام الكبرى»، و«الجوائز المؤجلة»، و«مقارعة الأشرار».
يتخير الديماجوجى أتباعه بعناية شديدة، وهم لا يخذلونه أبداً، وحين يحملونه إلى سدة السلطة أو إلى الوظيفة العامة، فهم لا ينتظرون منه دقة ولا كفاءة ولا إنجازاً، وكل ما يحاسبونه عليه هو قدرته على إقناعهم بأنه مخلص لـ«قضيتهم المطلقة»، وأنه شديد الصرامة والإصرار على مقارعة «أعداء القضية».
يحترم الديماجوجى العلم والمنطق فقط إذا استطاع أن يستند إليهما لتبرير موقفه أو خدمة أهدافه، لكنه فى الغالب يحتقر المنطق الذى يكشف عواره.. وأكثر ما يستخدمه فى أى منازلة فكرية «الحقائق المطلقة»، و«المبادئ الحتمية».
يشيع الديماجوجى عادة أن حقباً تاريخية مضت هى الأفضل والأكثر ثراء روحياً وأخلاقياً، وأن الأمور تمضى على هذا الدرب من سيئ إلى أسوأ، لكنه لا يستخدم أبداً الحقائق التاريخية الوافية والإحصاءات المتكاملة للبرهنة على ما يقول، مكتفياً بالقصص الملفقة والمنزوعة من السياق، رغبة منه فى إقناع جمهوره باليأس من الحاضر «المشوه» والإخلاص لـ«المثل الأعلى» الذى سيمثله وسيكون وكيلاً عنه.
فيروس «كورونا» حقيقة واقعة وخسائره الضخمة كذلك، لكن أحداً لم يثبت بعد أنه مؤامرة، أو غضب إلهى على البشرية، أو أن مواجهته تكون بالدعاء والصلاة فقط.
يجب ألا نتوقف عن تقصى أسباب وجود «كورونا»، كما يجدر أن نحترم هؤلاء الذين يدعون إلى التشبث بالإيمان والانخراط فى الدعاء لإزالة الغمة، لكن هذا لا ينبغى أن يكون تكريساً للديماجوجية، ولا صرفاً للأنظار عن الجهود الحقيقية المدروسة لملاحقة «كورونا» وتطويق تداعياته.