ملمح أساسى من الملامح التى سوف تميز «عالم ما بعد كورونا» يتمثل فى سيطرة مفهوم «الأداء عن بُعد» على كافة مناحى الحياة البشرية. المفهوم ليس جديداً، بل له تطبيقات متنوعة فى العديد من دول ومجتمعات العالم، بما فى ذلك مصر، وقد أصبح جزءاً من واقع الحياة المعاصرة بعد ظهور شبكة الإنترنت وانغماسها فى العديد من جوانب الحياة الإنسانية، فالعديد من الشركات والأعمال والمشروعات تعتمد على مفهوم العمل عن بُعد، فتوظف مبرمجين أو مصممين فى أماكن مختلفة من العالم يُطلب منهم أداء مهام معينة نظير مقابل مالى يصل إليهم. الأمر نفسه ينطبق على فكرة «التعليم عن بُعد» التى توسعت العديد من الجامعات فى تطبيقها خلال السنوات الأخيرة، حتى الصحف بشكلها التقليدى المطبوع توشك أن تدخل إلى متاحف التاريخ بعد أن اكتسحتها الصحافة الإلكترونية، ولعلك تابعت الدعوات التى تبنّاها البعض لإلغاء النسخ الورقية من الصحف خوفاً من انتقال عدوى كورونا.
التحول الرئيسى فى عالم ما بعد كورونا يرتبط بحصول مفهوم «الأداء عن بُعد» على دور البطولة ليتخلى عن دور «السنيد» الذى ظل يلعبه لسنوات طويلة إلى جوار العمل أو الأداء بمفهومه التقليدى الذى يعتمد على الوجود فى المكان. لم يعد للمكان قيمة بعد أن ذابت الحدود بين الأماكن بفعل التحولات التكنولوجية، لم يعد المكان يحظى بالأهمية التى كان يتمتع بها فيما سبق بالنسبة للتعليم الجامعى والمدرسى، أو للوزارات والمؤسسات الحكومية، أو للمنتجين فى العديد من المجالات. محنة كورونا تثبت يوماً بعد يوم أن تزاحم البشر فى مكان أو بقعة معينة قد يشكل فى أوقات مصدر خطر يصح أن يفر منه البشر. وليس هناك خلاف على أن تحقق مفهوم العمل أو التعليم أو الإنتاج أو الإدارة عن بُعد يحتاج بنية أساسية لا بد أن تتوافر داخل الدولة، وظنى أن التطورات المتلاحقة فى مجال تكنولوجيا الاتصال أصبحت توفر ذلك بدرجة محسوسة من اليسر والسهولة.
منذ أن توقفت الدراسة فى مصر -ضمن الإجراءات الاحترازية ضد انتشار كورونا- والمدارس والجامعات تخوض تجربة مثيرة للتعليم عن بُعد. برامج عديدة أصبحت تيسر هذا الأمر على المعلم والمتعلم، وتتيح أعلى درجات التفاعل الهادئ بين طرفى العملية التعليمية، يصب فى هذا الاتجاه أيضاً تجربة «التعليم بالتابلت» وكذا استخدامه فى الامتحانات النهائية. فرغم تحفظ البعض على عدد من الجوانب الإجرائية للتجربة إلا أنها تدعم اتجاهاً إيجابياً لحل العديد من مشكلات التعليم فى مصر. نحن نشتكى، على سبيل المثال، من التكدس فى الفصول وقاعات المحاضرات، ولك أن تتخيل كيف يمكن أن يسهم التوسع فى التجربة الحالية فى حل هذه المشكلة، ناهيك عن حل مشكلات أخرى عديدة تتعلق بنظم الامتحانات.
تطبيق مفهوم «الأداء عن بُعد» الذى اضطرتنا إليها محنة كورونا يكشف لنا عن وجه «المنحة» فى تلك «المحنة». وظنى أن بمقدورنا البناء على التجربة الحالية لينتقل المفهوم من خانة «المضطر» إلى خانة «المباح».