الجائحة، أى المُصيبة تحُلُّ بالرجُل فى ماله، فتجتاحُه كلَّه. والجائحة (فى اصطلاح الفقهاء) أى ما أَذهب الثمرَ أَو بعضَه من آفة سماوية، ويقال: سَنة جائحةٌ أى جَدبةٌ، والجمع: جوائح
من معجم لسان العرب
لم تدهشنى كثيراً (وقطعاً لم تضحكنى) مظاهرات الإسكندرية ذات المسحة الدينية فى مواجهة جائحة الكورونا، وقد علمتُ من شهادات الفتيات الصعيديات بينما أجمع حكاياتهن قبل عدة أعوام، أن المصريين فى الجنوب وحتى التسعينات من القرن العشرين كانوا يطوفون أزقة قراهم الفقيرة فى ليالى احتجاب القمر بطبلة بدائية الصنع تشبه تلك التى يجول بها المسحراتى فى أزقة القاهرة، يغنون للقمر الذى ينذر احتجابُه بكارثة طبيعية غامضة، أو بغضبة كونية لا يدرون أصلها ولا فصلها، قارعين طبولهم مخاطبين الله «الأمر بإيدك يا رب، إحنا عبيدك يا رب»، فى مشهد ترى فيه ابتهالاً وخطاباً ذا طابع إسلامى، لكنه لا يخلو من مسحة طقسية وثنية لا تخطئها العين.
لا يتغير المشهد كثيراً، من صعيد مصر إلى إسكندريتها، إلى شمال بلاد الطليان.. إذ بالتزامن مع احتشاد السكندريين ضد كورونا فى مشهد بدا للكثيرين عبثياً لا عقلانى، كان يدور على هواتفنا الذكية ذاك المقطع المرئى الموجع من إيطاليا، والذى عنونه مرسله بـ:«الإيطاليون يعلنون استسلامهم للكورونا ويتجمهرون فى الشوارع»، وفى المقطع تجد أعداداً من الإيطاليين يغنون بحناجر ملؤها الأسى أغنيتهم الفلكلورية المؤثرة: بيلا تشاو.. بيلا تشاو (أى وداعاً يا جميلة).
والحقيقة أن تجمهر أعداد من الإيطاليين فى هذا الظرف الذى يدعو أى عاقل للانعزال، مثله كمثل حالة الاحتشاد السكندرى بالتكبير والتهليل، ففى المشهدين أرى انفلاتاً جماعياً مفهوماً جداً مع التأثير النفسى لتلك الجائحة التى تطال الكوكب من أقصاه إلى أقصاه، فتُعجز العلماء والأطباء ودهاة الإدارة والسياسة، هم الذين حسبناهم، وحسبوا أنفسهم فى لحظة سذاجة، ممسكين بخيوط اللعبة.. إنها لحظة من تلك اللحظات التى تنفلت فيها المخاوف والأحزان ومشاعر عدم التصديق، ويتراجع فيها العقل والمنطق والحسابات المنمقة.. لحظة من تلك التى تستدعى الجماعة فيها على الأغلب كائناً بدائياً جداً مذعوراً جداً من داخلها، هو غالباً ذات الكائن الذى كان يقف تحت الرعود والبروق فى أيام الكهوف، يزأر للسماء بمشاعر مزاجها الذعر والحنق على الطبيعة والعجز عن فهم اختيارات القوى الكونية الغامضة تلك.
وكما أعادنى المشهد فى الإسكندرية إلى صعيد مصر فى القرن العشرين، أعادنى كذلك إلى ميلانو الإيطالية فى أيام الطاعون الدُملى (1629 - 1631)، والذى حصد نصف سكان ميلانو آنذاك، حين طوّر الإيطاليون حكاية يقدرون على استيعابها فى تفسير الأمر، وهى أن «الأنتوريو» وراء الطاعون المميت! والأنتوريو هو اصطلاح استخدم فى إشارة إلى أشخاص (أو كائنات شريرة غامضة) تملكها الشيطان، فباتت تنشر الوباء على الحوائط كى تدمر المدن. كانت تلك الحكاية بمثابة الإصدار التفسيرى المبسط لحكاية الطاعون الدملى القاتل، والشائعة السهلة التى يمكن تداولها بكثافة، حتى بلا وسائل تواصل اجتماعى!
فى طريقة عمل نُشرت فى إحدى الدوريات التى تصدرها جامعة جون هوبكنز الأمريكية عام 2008، وهى للمؤرخ دوين أوشيم، يستنتج الباحث من خلال مراجعاته فى النصوص التى خلفتها فترات الطواعين والجوائح فى أوروبا حتى بداية الحداثة، أنه عبر العصور كان هناك دوماً إله هو صانع الجائحة ومحركها، حتى مع التطور النسبى للعلوم واكتشاف الأسباب العلمية والمخبرية للأوبئة، يظل الإله أو الخالق فى خلفية الأشياء فى الوجدان الجمعى الإنسانى.. ولا يمكن التنبؤ إلى أى اتجاه ستتحرك الجماعة بفعل الدين فى مثل تلك النوازل، إلى الاستسلام أو إلى العمل الدؤوب لدرء المخاطر، أو إلى اللجوء للإكثار من العبادة، أو ربما إلى تغيير العقيدة فى بعض الحالات..؟
وللحديث عن هذا بقية، إن امتد بنا العمر