زينة، ميادة، هاجر.. أسماء ثلاثة أطفال فى عمر الزهور فرضت نفسها على المعالجات الصحفية مؤخراً وعلى أحاديث الناس، وليت تلك الأحاديث ما كانت أصلاً، فالأولى اغتصبها ذئبان بشريان وقتلاها، والثانية ذات السنوات الأربع اغتصبها والدها بوحشية فى لحظة سُكر وعربدة، والثالثة ذات الثمانية أعوام اختطفها ثلاثة من العاطلين جهاراً نهاراً أثناء وجودها مع أخيها الأصغر فى السوق، وحاولوا اغتصابها فى مكان ناءٍ.
كل من الحالات الثلاث يفضح جانباً من سلوكيات جزء أو فئة من المجتمع، كما يكشف الحال الذى وصل إليه المجتمع المصرى. تصريحات الدكتورة عزة العشماوى، الأمين العام للمجلس القومى للطفولة والأمومة، أكثر من صادمة، ففى خلال أسبوعين فقط من شهر أبريل الحالى، رصد المجلس 34 حالة عنف ضد الأطفال، منها: 11 حالة قتل الأطفال، و8 حالات عنف ضد الأطفال، و7 حالات إهمال نتج عنه قتل أو إصابات للأطفال، و5 حالات خطف واتجار بالأطفال، وحالتا اغتصاب وحالة تعذيب. والمؤكد أن هناك حالات كثيرة لم تُعرف، إما بسبب أن الأسرة تسترت على الفعل المشين تجنباً للفضيحة، أو عجزاً عن مواجهة الفاعل وخوفاً من نتائج مواجهة أفراد وبلطجية بلا ضمير أو عصابات تهدد وتقتل بلا رادع.
ويمكن لأحدهم أن يقول إن 34 حالة اعتداء وعنف على أطفال فى بلد يقترب عدد سكانه من 90 مليون نسمة، ليس بأمر ذى بال، خاصة فى ظل وجود عشوائيات يعيش فيها حوالى 25% من السكان، وتدنى الأوضاع الاقتصادية وحالة الانفلات الأمنى التى انتشرت فى السنوات الثلاث الماضية، وحالة السيولة القيمية التى يعيشها المجتمع المصرى والمرجح أن تستمر لفترة أخرى، حتى تستقر الحالتان السياسية والاقتصادية فى البلاد، وتراجع أدوار مؤسسات التنشئة كالأسرة والمدرسة فى بناء المنظومة الأخلاقية للأجيال الجديدة لصالح مؤسسات وآليات أخرى، الكثير منها فى الفضاء المفتوح، تتسم بالحرية غير المسئولة.
أسباب الظاهرة، إن قبلنا بمثل هذا الوصف، عديدة وتتطلب بالتالى سياسات وآليات للمواجهة متعددة المستويات، حكومية وغير حكومية، ومتكاملة من حيث الهدف المرجو، وهو محاصرة العنف ضد الأطفال بكل أشكاله. مثل هذا الجهد الشامل يتطلب إعادة بناء الوعى الجمعى للمجتمع والدولة على قاعدة القيم الرفيعة والأخلاق والتعاليم الدينية الوسطية، والحرية المسئولة وحماية الحقوق لكل الفئات العمرية والدينية والحضارية، وتماسك المجتمع وترابطه. وهو ما يتطلب دوراً خاصاً من أهم وسيلتين تؤثران فى بناء الوعى والإدراك العام، وهما الإعلام والفنون، ويضع عليهما مسئولية خاصة تجاه المجتمع وقيمه ومصالحه العليا. ولا أتصور هنا أن إعلامياً أو فناناً يؤمن بدوره المركزى فى بناء الوعى العام وتنشئة الأجيال لا يتمتع بالحس الوطنى، أو يفتقد المسئولية المجتمعية حين يختار أعماله التى يُطل بها على الجمهور. ولا أتصور هنا أن يطالب العاملون فى هاتين الوسيلتين بالحرية ومنع القيود على الإبداع والفكر، وترك الأمر للرقابة الذاتية النابعة من الإعلامى أو الفنان، وفى الآن ذاته يقدمون الأعمال المدمرة والمثيرة للغرائز والخادشة للحياء العام، بدعوى أن لا سلطة على إبداع ولا قيد على عمل، وبدعوى أن لا حق لمسئول أو جهة أن تتدخل فى عمل الفنان أو الإعلامى.
فى كثير من هذه المقولات حق ظاهر يراد به باطل موضوعى، فحين يقتحم الإعلامى أو الفنان بعمله المجالين الخاص للأفراد والعام للمجتمع بأسره، يصبح من حق المجتمع أن يضع الضوابط فى صورة مبادئ دستورية أو قوانين ولوائح واجبة التطبيق، ويصبح من واجب المسئول العام المفوض من المجتمع أن يتدخل بقوة وحسم، حين يتم الإخلال بهذه الضوابط فى صورتها الكلية وليست المجتزأة، ويصبح أيضاً من حق المؤسسات الدينية والفكرية والثقافية والتربوية أن تدلى برأيها وأن تطالب بما تراه حقاً لهذه الفئة أو تلك، أو حقاً للمجتمع ككل وفقاً لأسانيد دينية وفقهية أو تربوية أو قانونية. ومن ينكر مثلاً على الأزهر كمؤسسة دينية دعوته للمسئولين أن يتخذوا قراراً أو خطوة معينة تجاه عمل فنى أو أدبى، فهو فى ذلك ينكر الحرية على غيره، وبالتالى يقدم لنا سلوكاً فاشياً بدعوى حماية حرية الإبداع.
والمرء يحار فى وصف تلك الفنون والقائمين عليها والتى تجهل وظيفتها فى السمو بالنفس البشرية، وإذا بها تنزل إلى أسفل درك، وكيف؟ على لسان طفل سوف يتأثر به الآلاف ممن هم فى نفس عمره، ويرون ما فعله على الشاشة شيئاً عادياً ولا بأس من تقليده فى الواقع. وإذا كان هناك من الآباء من يرمون بأبنائهم إلى هذا الدرك الأسفل، فهم أحرار طالما أغلقوا على أنفسهم الجدران. أما وإن خرجوا إلى العلن، فعليهم أن يتحملوا المسئولية الأخلاقية والمعنوية، وأن يكونوا محلاً للإدانة والاستنكار.
لقد سعد الفنانون حين عُقد عيد الفن فى مارس الماضى، بعد أكثر من ثلاثين عاماً من التوقف. ولكن يبدو أن بعضاً ممن حضروا ذلك الاحتفال لم يستمعوا جيداً لكلمة الرئيس عدلى منصور عن الوظيفة الحضارية النبيلة للفن، ولعل خاتمة ما قال فى خطابه الرائع تكفى لبيان الرسالة، «لا تتركوا الساحة الفنية فريسة للعبث بالذوق المصرى العام، بل تصدوا لذلك بإنتاج فنى حقيقى يرتقى بالذوق العام، ويعيد إلى فننا بهاءه المعهود، ورقيه المنشود، واعلموا أنه سيظل هناك مقياس للإبداع الإنسانى فنياً كان أو فكرياً أو فلسفياً، إنه مقياس ربانى، مصداقاً لقوله تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ) «الرعد: 17».