ليس هناك حديث فى أى مكان فى العالم يشغل الدول، مثل الحديث عن فيروس كورونا، هذا الكائن اللعين الذى أفزع العالم بأسره، ويتصدر الاهتمام اليومى، لم نستطع حتى الآن التغلب عليه، أو الحد من انتشاره، ولا نستطيع التكهن بموعد اختفائه! إنه الشبح الذى يطارد البشرية ويقض مضجع أعتى الدول وأقواها.
من منا كان يتخيل أننا سنصبح رهائن ومعتقلين تحت وطأة تهديده المستمر للبشر، تغيرت معالم الدول، هجرتها الحياة والحيوية، تحولت إلى مدن أشباح خالية من كل مقومات الحياة التى طالما كانت تضج بالنشاط والتفاعل، توقفت عجلة الإنتاج، وانهارت معها المفاهيم المرتكزة على «البقاء للأقوى»، أمام هذا الفيروس المتوحش تغيرت النظرة إلى معايير القوة والضعف، وأمام عدوانيته وشراسته أصبح الكل سواء، لا فرق بين دول غنية وفقيرة، قوية وضعيفة، متقدمة ومتخلفة، الكل عاجز، الكل ينتظر، الكل يسابق الزمن ليوقف هذا الاجتياح الكاسح الذى يحصد الأرواح بلا هوادة.
الصين هى المتهم الأول فى انتشار الوباء، لأنها حجبت المعلومات عن منظمة الصحة العالمية وبقية الدول، أخفت حقيقة المرض وسرعة تفشيه، ولا نعلم لماذا فعلت ذلك؟! رغم أنها رصدت المرض لأول مرة فى منتصف نوفمبر من العام الماضى، كما أنكرت أنه ينتقل عبر الأشخاص وحين أقرت بتفشيه، كان قد غادر البلاد أكثر من 30 مليون شخص لينتشروا حول العالم! أما الدول التى استشرى فيها فيروس كورونا فقد استهانت به، وتعاملت معه باستخفاف، فوقعت فى فخ الانتشار السريع، وهى الآن تدفع الثمن غالياً، كورونا كشف حقائقنا كبشر، التركيبة الأولى للعالم انتهت، وولى زمنها، سيكتب التاريخ مرحلة جديدة من عمر البشرية، تتغير فيها مفاهيم العولمة والقوة والسيطرة، نظرية البقاء للأقوى تهاوت، كورونا الذى سيطر على مقدراتهم ومزايا قوتهم، أثبت أن السيطرة لا تتمثل بكمْ تمتلك الدول العظمى من ترسانة الأسلحة والقوة الاقتصادية، والتقدم العلمى والتكنولوجى، دون استغلاله فى المسار الصحيح، فكانت النتيجة أن كل تلك المميزات عجزت عن هزيمة خصم البشرية جمعاء، ورغم ما تمتلكه الدول من تطور وتقدم علمى وتكنولوجى، إلا أنها فشلت فى مواجهته بسبب طريقة تعاملها مع الوباء، وضعف الإجراءات الاحترازية التى اتخذتها للحد من انتشاره، وعدم معرفة شفرته الجينية، تؤخر من إمكانية اكتشاف علاج يقضى عليه، للخروج من تلك الجائحة التى أفزعت العالم، بأقل الخسائر البشرية والاقتصادية.
النظام العالمى الجديد ينهار مع أول اختبار حقيقى يعصف بالبشرية، ولن يعود مجدداً كما كان، أثبتت العولمة هشاشتها وضعفها، عرّى الوباء أكذوبة التعاون الدولى، بروكسل فقدت السيطرة على بروتوكولات التعاون فيما بين الدول الأعضاء فى اتحادها، فتخلت عن قواعدها، وانشغلت كل دولة بهمومها وأزماتها وكيفية احتواء أزمتها الداخلية مع الوباء، وتجاهلت أهم قواعد الانتماء للاتحاد، «المساندة والمساعدة والمؤازرة والدعم»، هنا استخلصت إيطاليا المنكوبة العبر، لأنها أكثر الدول الأوروبية تضرراً، وأدركت أنها تقف وحيدة فى مواجهة هذا الوحش، وأن الاتحاد «أكذوبة»، لا يغنى وقت الشدائد ولا يسمن من جوع، فقررت الخروج من هذا الوهم، وربما تسير على دربها إسبانيا ثانى دول الاتحاد الأوروبى بعد إيطاليا تضرراً، والتى استنجدت بدول من خارج الاتحاد لتساعدها فى مصيبتها، فماذا نفهم من ذلك؟!
طالت الأزمة أو قصرت، فإن لحظة التعافى آتية ومن ثم سيكون الحساب عنيفاً، من المؤكد لن يكون التعافى من هذه الجائحة سهلاً على أى دولة فى العالم، وستظهر آثاره تباعاً، من إعادة النظر فى الأولويات والسياسات الصحية والاقتصادية، التى اعتمدتها الدول سنوات طويلة، فشدة البلاء جعلتهم ينزلقون بتصريحات غاضبة وعنيفة، تعرى سياساتهم المضللة لشعوبهم، التى تعتمد على توحش رأس المال والتهام القوى للضعيف عملاً بقواعد «الرأسمالية المتوحشة» التى شكلت سياسات العالم الاقتصادية والسياسية، وسحقت فى طريقها كل من يعيق أهدافها، ويحاول تعطيل مسارها، تلك السياسة المتغطرسة سيعاد النظر فيها، على الأقل لن تعود بنفس الآلية أو المفاهيم القديمة التى سيطرت لعقود، وحولت العالم إلى عبيد «القطب الواحد» يتحكم ويلتهم كل ما يعترض طريقه.