تأمّل أحوال الأفراد والمجتمعات خلال الأوقات العادية لا يمنحك مؤشراً دقيقاً عن أخلاقياتهم.
أجواء الأزمات هى المختبر الحقيقى لدرجة إيمان الفرد أو الجماعة بما يتردد على الألسنة من قيم وأخلاقيات. وأخطر أنواع السقوط التى يمكن أن يعانى منها الفرد أو المجموع هو السقوط الأخلاقى، وهو أمر يحدث فقط حين تحل الأزمات، فلحظتها يصبح كل شىء على المحك.
الأداء الأخلاقى للمجتمعات الغربية خلال أزمة كورونا أثار دهشة العديد من المجتمعات. فبعد سنين طويلة عاشها أبناء المجتمعات الأخرى وهم يعتبرون أن حضارة الغرب تبلورت حول الإنسان، وأن أنظمتهم وقوانينهم تصب جميعها فى مربع الارتقاء بالإنسان وحماية حقوقه جاء فيروس كورونا ليكشف أن المسألة ليست كذلك. وحديثى فى هذا السياق لا ينصرف إلى الشعوب، بل إلى الأنظمة والحكومات. فبعض السلوكيات التى ظهرت بين شعوب الدول الأوروبية وفى الولايات المتحدة طبيعية فى سياق أزمة يتواجه فيها الإنسان مع تهديد بالموت من مصدر لا تعرف متى يضرب أو كيف أو أين؟. فالهرولة على شراء السلع أو سحب المدخرات أو الإهمال فى اتخاذ الإجراءات الاحترازية أو الشعور بالضجر والملل منها هى مسائل إنسانية طبيعية يستوى فيها البشر فى كل مكان من أرض الله، لكن الأمر يختلف بالنسبة للأنظمة والحكومات.
فى بعض الدول الأوروبية -مثل إسبانيا- ظهرت مشاهد موجعة لبعض كبار السن وهم يبكون أمام المستشفيات ويتوسلون إلى حراسها ليسمحوا لهم بالدخول دون جدوى، لأن علاج وإسعاف المصابين بكورونا أصبح انتقائياً، يركز فقط على مَن هم فى عمر الشباب لأن احتمالات شفائهم أعلى، أما العواجيز والشيوخ فمتروكون لرحمة خالقهم، تكررت مثل هذه المشاهد فى دول أوروبية أخرى، وتردد أن الفئات البشرية الضعيفة لن يكون لها حظ فى العلاج بعد تكدس المستشفيات بالحالات واضطرار السلطات الصحية إلى الفرز وانتقاء القابلين للعلاج والشفاء واستبعاد غيرهم. قد يقول قائل إن ذلك أمر طبيعى فى ظل عدم قدرة النظام الصحى على الاستيعاب، لكنْ ثمة سؤال يطرح نفسه حول ما كان يطنطن به الغرب من قدرات وإمكانيات؟
عندما ظهر الفيروس فى الصين أوائل العام الحالى سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الإعلان عن استعدادها للمساعدة وبناء المستشفيات فى أيام معدودات، وحين ضرب الفيروس نيويورك -وغيرها من الولايات الأمريكية- وجدنا «ترامب» يردد أن الولايات المتحدة تخسر الآلاف والآلاف من الأشخاص سنوياً بسبب الإنفلونزا ولا تغلق البلاد بسببها. قصد «ترامب» بحديثه القول بأن أمريكا تفقد الآلاف سنوياً بسبب الإنفلونزا العادية ولا تغلق ضلف البلد.. فما المانع أن تخسر الآلاف أو عشرات الألوف فى «كورونا» وتستمر فى العمل والإنتاج؟. إنها الرأسمالية الشرسة المستعدة لسحق الإنسان تحت عجلة الإنتاج حتى ولو دفع حياته ثمناً لذلك. دول أخرى -مثل إنجلترا- تبنَّت فى بداية ظهور كورونا بها سياسة «حصانة القطيع» حتى تستمر عجلة الاقتصاد الرأسمالى فى الدوران ولتسحق فى طريقها من تسحق.
من حق رأس المال أن يحمى مصالحه، ومن حق الغرب أن يحمى مصانعه وبيوت إنتاجه، لكن عليه بعد أن تنجلى أزمة كورونا عن العالم ألا يحدثنا عن الأخلاق أو الحضارة المتمحورة حول الإنسان وغير ذلك من عبارات كشف «الفيروس الخطير» عن زيفها.