ومع أننا نرى هذه الجموع تساهم فى مد المشروعات بالعمال والفنيين والحرفيين، إلاّ أنهم لا يتأملون كيف قامت مشروعات المواصلات والطرق وقنوات الرى والصرف ومرافق الصحة والتعليم والأمن والإدارة ولا يلقون بالاً لضمان بقائها مؤدية لدورها وما أقيمت من أجله.. وقد لوحظ ولا يزال أنه ما إن ينفض الأجنبى المستعمر يده من هذه المشروعات، بنزوحه عن البلد المحتل، إلاّ وتصاب أمثال هذه المشروعات بكثير من السلبيات والقصور والتلفيات والأعطال على أيدى الخاملين والأغبياء والجهلاء والوصوليين ونهّازى الفرص، ويجتاحها الفساد والإهمال والرشوة والخلل والتحلل على أيدى الطامعين والمرتشين والمفسدين، حتى تبيت هذه المشروعات معطوبة متدهورة عاجزة عن أداء أغراضها التى من المؤسف أنها كانت مؤداة فى إدارة المستعمر المحتل.. وشيئاً فشيئاً يتفاقم الخلل والتحلل والتعثر حتى تعود المجتمعات المتخلفة لتنشد من الأجنبى المستعمر بأمس أو غيره أن يعود بشكل آخر لجبر ما انفرط وإصلاح ما تعثر وتقديم الأدوات والخبرة التى عز على أصحاب البلد تقديمها للنهوض بإدارة هذه المشروعات طبقاً لأصول الإدارة والاقتصاد والتجارة ووسائل الصيانة والرعاية، ما أدى إلى تراكم الفقر بما يستتبعه من شقاء وتعاسة!
ودخول الأجنبى، ليحل محل الوطنى، أو حتى ليعمل إلى جواره ليس دخولاً خالص الأغراض، وإنما هو دخول مدخول.. وكثيراً ما يغطى بمعونات ظاهرية!! تستهلك فى الصرف على ذات الأجنبى الذى دخل بدعوى ترميم هذا أو ذاك من المشروعات أو إصلاحه أو القيام بإنشاءاته.
إن الميديا العالمية لا تتوانى فى بث إعلانات إلى العالم بأسره، أن هذه أو تلك من الدول ذات الحول والطول، تضطلع بحملات الإغاثة لملايين الجوعى والعرايا والمرضى والمعدمين، من الأطفال والنساء وكبار السن.. بإلقاء عبوات الطعام والكساء والدواء من الطائرات أو بواسطة قوافل تتوارى وراء ذلك من أجل التبشير، مستغلة أن دول الجوار تعجز لتخلفها هى الأخرى عن إسداء هذه الإغاثة لضحايا الفقر والجوع والمرض!
ويبدو أن حال الجماعات المتخلفة، يرجع إلى أن معظم أفرادها لم يفارقوا عاداتهم النفسية والفكرية القديمة.. البدائية الجاهلة الخاملة.. سواء فى العمل، أو فى حياتهم الخاصة والعامة.. وربما ساهم فى ذلك أنانية القلة التى فازت بالتعليم وصار همها أن تبقى الأغلبية الفقيرة على حالها تنوء بما هى فيه، حاجبة عنها ما يوقظ عقلها وروحها من عتامة الجهل والغفلة، وذلك حتى تستقيم للقلة المتحكمة أسباب السيادة والزعامة، ويسلس لها قياد الأغلبية الممتحنة بالفقر والجهل وقلة الحيلة والسيطرة عليها ولو بالتملق الزائف ودغدغة المشاعر بوعود الإصلاح والإنصاف والعدالة والإثراء!!
استدامة الشغب واللغط، والاعتياد عليهما، يصرف الشاغبين عن الاشتغال بالمتاح وإحسان معرفته والاجتهاد فيه، إلى الامتثال للأقاويل والشائعات، والقعود عن الإلمام بأحوال بلدهم وحقيقة أمر القائمين عليه.. وهذه الغيبوبة التى يفرضها وينشرها توالى التسامع وعدم الأمانة فى النقل، سرعان ما تفرز بعض النماذج التى تنجرف إلى ممالأة ذوى النفوذ والمتنافسين على السلطة، وتنحو إلى الوساطة والسمسرة بين هؤلاء وبين أصحاب المصالح والحاجات من الجمهور العريض.. ومع الاعتياد والمثابرة والوقت، ينتقل هؤلاء الوسطاء والسماسرة إلى صفوف ذوى النفوذ أو إلى عداد ذوى السلطة.. وهكذا تزود هذه اللعبة الخبيثة نفسها باستمرار بعناصر شعبية الأصل تعطى ظهرها للبسطاء، وتنفض عن نفسها الفقر دون مبالاة بغيرها، وتتسع وتروج وساطتها وسمسراتها وتتخم بالمال فى تحقيق أغراضها غير القويمة، التى هجرت من أجلها ما كان ينبغى عليها أن تنهض به لتجفيف الفقر والفاقة، ورعاية الفقراء والمهمشين!! وبهذا ومثله زالت وتزول الثقة فى التعامل السياسى والإدارى بين السلطات بعضها وبعض، وبينها وبين أفراد الشعب بعامة.. وعجزت وتعجز كافة الضمانات الدستورية والقانونية عن وقف هذا البلاء أو الحدّ منه.. لأن مرجعه صار فى فساد وإفساد ذمم الخلق من فوق ومن تحت.. لدى الحكام ولدى ضعاف النفوس من المحكومين!!
ويبدو أننا لطول الاعتياد على استعمال المجاز لتسهيل أمور الجماعة وتبسيطها بتنا ننظر إلى الأنظمة من دساتير وقوانين ولوائح وقرارات وأوامر إدارية وأعراف وأصول وعادات واجبة الاتباع ننظر إليها على أنها تحكمنا وتملك رقابنا وتزيد أو تنقص من حقوقنا وواجباتنا وتلزمنا بالخضوع لها واتباعها ومراعاتها وإلاَّ تعرضنا للجزاء والعقاب.. ومع أنها فى ذاتها مجرد أفكار ومعانٍ خاليةٍ تماماً من حياة وإرادة وحركة الأحياء، وأن طاعتنا هى فى الواقع طاعة أو انصياع للآدميين الذين فرضوها أو فرضوا علينا طاعتها وامتثالها، وسهروا لأغراضهم! على نفاذها والتزام المحكومين باتباعها، حريصين على موالاة فرضها حتى لا تسقط بالإهمال! قيمتها واستمرارية سريانها. إن ما أسلفناه قد حدث فى الماضى مرات ومرات، وهو ما لا بد أن يحدث حين يشيع الفساد والإفساد فى الجماعة البشرية.. ويشيع معهما الضيق تلو الضيق، وتتوالى بلا انقطاع الأزمات الخانقة التى يكابدها الفقراء ولا تزعج أو تقلق الأغنياء والموسرين.. ومع تراكم الفقر والفاقة، وشيوع البؤس والتعاسة، تضطرب أحوال العامة، ويتضح لهم ما كانوا غافلين أو ساهين عنه من أنانية الحكام وعجزهم وفشلهم فى تحقيق الأمان المجتمعى وتوفير فرص العمل والظروف الصالحة لكسب الأرزاق وإنعاش أحوال البلاد والناس.
ومهما كان للنظم من هيبة وشوكة، فإن تراكم الفاقة وتفشى أسبابها، يؤدى حتماً إلى تراجع ثم زوال الهيبة التى عاشت فى ظلها الحكومات والنظم، وتتوالى أسباب إسقاط النظام البالى بعد أن صار وجوده كعدمه أو أسوأ من عدمه.. وتدل دروس التاريخ على أن هذه الانتقالات، مهما كانت أساليبها وصورها، تخالطها أغراض الراغبين فى التزعم والتسيد، وقد تتحول منافساتهم إلى صراع، ينسب كل منهم فيه إلى نفسه أنه الممثل للشعب المتحدث دون سواه! باسمه، المعنى بمقدراته ومصالحه.. ويظل هذا الصراع محتقناً حتى يتهيأ لبعض أطرافه فرض كلمتهم على الباقين وعلى المحكومين.. بالقوة أو بالخديعة أو بهما معاً.. والمحكومون من البسطاء والمهمشين متأرجحون بين الخوف والرجاء، والقلق والأمل، معزولون عما يجرى على يد المتنافسين المتصارعين على حكم بلدهم.. حتى تستقر الأحوال، وغالباً ما يتحول الإذعان القديم الذى كان، إلى إذعان جديد يلبس أثواباً متقلبة توافق مراد الأحوال المستجدة!!
واستكانة الجمهور للحاكم القوى، ظاهرة اجتماعية فى طبيعة البشر.. يتفادون أو يتصورون أنهم يتفادون بها إطالة عهد الفتن والقلاقل، ويتجنبون بها تعرض الأرواح والأرزاق للمخاطر.. وغالباً ما تكون هذه الاستكانة غير مشروطة، ولا تتوقف على تثبت أو اختيار أو مراقبة، وإنما تكتفى غالباً بالمظاهر والوعود والدعايات.. يدفع الخلق إلى الاستسلام لدغدغتها شدة شوقهم إلى استقرار الأحوال الذى لا بد منه لاستمرار الحياة وتيسير الحصول على الأرزاق التى عزت على الفقراء والمهمشين!!