لطالما لعبت الجيوش النظامية أدواراً مؤثرة ومهمة فى مواجهة الكوارث الطبيعية والبيئية والصحية، وفى الوقت الذى تتزايد فيه مخاطر انتشار فيروس «كورونا»، وتتزايد ضغوطه على دول ومجتمعات عديدة، راحت دول مثل الصين والأردن والسلفادور وإيطاليا توظّف قدرات جيوشها للحد من تداعيات الكارثة.
تُعرف الكارثة بأنها «حادث أو خطر كبير يُحدث دماراً أو معاناة عميقة ومأساوية. وهى كل حادث مفاجئ غالباً ما يكون بفعل الطبيعة ويهدد المصالح القومية لبلد ويخل بالتوازن الطبيعى للأمور، ويتطلب مواجهتها اشتراك جميع أجهزة الدولة فى التصدى لها».
وانطلاقاً من هذا التعريف يتضح أن «كورونا»، بوصفه كارثة، يمثل تهديداً للمصالح القومية فى كل دولة يسجل فيها إصابات مؤثرة، وهو الأمر الذى يستلزم اشتراك كافة مؤسسات الدولة فى مواجهته.
تمتلك الجيوش إطار كفاءات وقدرات يساعد فى مواجهة الأزمات والكوارث الخطيرة، حتى إن كانت ذات بعد طبيعى أو بيئى، كما حدث حين انخرطت القوات المسلحة الأمريكية فى جهود مكافحة إعصار كاترينا فى 2005، وإعصار ساندى فى 2012، وحين تفشى وباء إيبولا فى 2015.
تتميز أنظمة الدفاع عادة بعدد من السمات التى تتحول إلى مزايا مهمة فى أوقات مواجهة الأزمات والكوارث، ومن تلك السمات انطواؤها على قدرات إدارة أزمة متقدمة.
جزء أساسى من التعليم الذى يتلقاه الضباط والدورات التدريبية التى يخضع لها القادة كمسوغ للترقى داخل المؤسسات العسكرية يتعلق بفهم الأزمات وتعزيز مهارات إدارتها، وهو أمر يصعب جداً توفيره فى كل مؤسسة مدنية.
تتسم القوات النظامية المسلحة كذلك بامتلاكها القدرة على إنجاز المهام المتنوعة على التوازى وبنتائج قابلة للقياس وفق بيان مهمة واضح؛ وهى قدرة ومهارة تحرص إدارات الجيوش على ضمان تعزيزها لدى منسوبيها.
تمتلك القوات المسلحة أيضاً موارد لوجيستية مثل الوقود، ووسائل النقل، والغذاء، والماء، والدواء، وغيرها من المواد والمتطلبات التى يمكن أن تعانى الدول من نقص فيها خلال الأزمات. بسبب طبيعة القوات المسلحة، وطبيعة المهام التى تتصدى لها، فإن تأمين احتياجاتها اللوجيستية يجب أن يحتل موقعاً متقدماً، وهو أمر يبدو نادراً بين مؤسسات الدولة الأخرى فى أوقات الكوارث.
عندما تضرب الأزمات الأوطان، فإن القوات المسلحة تكون صاحبة قدرة نادرة على الانتشار الفورى فى أعماق البلاد، وهو أمر تتيحه لها قدراتها اللوجيستية ونزعتها التنظيمية ودورة العمل فيها.
كما تمتلك الجيوش الوطنية أيضاً القدرة على مخاطبة الجمهور فى أى وقت، وليس هذا فقط، لكنها عادة ما تنجح فى الحصول على الامتثال والمطاوعة خلال أوقات الأزمات. وفى بعض الأحيان يتطلب الأمر فى مواجهة كوارث وأزمات قدراً من الحزم والصرامة، وهو أمر يقبله السكان عندما يصدر عن القوات المسلحة، بسبب الثقة التى عادة ما تحظى بها تلك المؤسسة.
تستطيع القوات المسلحة فى أوقات الأزمات وعند استفحال المخاطر أن تتولى القيادة على المستوى الوطنى أو الإقليمى، بفضل ما يتوافر لها من قيادات مدربة وبرامج عمل مجهزة وخطط إدارة ومواجهة معدة سلفاً.
كما يمكنها أن تعين وتدرب وتجهز القوى العاملة المطلوبة من المدنيين وفق خطط محكمة وفى أوقات محدودة، كما يمكنها أن تستخدم الموارد العامة أو تقنن استخدامها وتفرض احترام السكان لمبادئ هذا التقنين.
وبموازاة تلك الأدوار كلها، فإن قدرة القوات المسلحة على حفظ الأمن الداخلى معروفة، وقد تمت البرهنة عليها فى عدد كبير من الدول التى شهدت انتفاضات أو تمرداً أو أعمال شغب وفوضى واسعة، كما أن السياسات والممارسات التى تصدر عنها فى مجال مكافحة الجرائم الداخلية تبدو أكثر صرامة من تلك التى تتبعها الأجهزة الأخرى.
لذلك، فإن القدرة على ضمان الأمن وحفظ النظام العام وتنفيذ تدابير الصحة العامة؛ مثل العزل والحجر والحظر، كلها عوامل تندرج ضمن إطار كفاءات وقدرات القوات المسلحة.
ورغم هذه الطاقة الكبيرة والإمكانيات الواسعة، فثمة محددات وقيود على دور القوات المسلحة فى مواجهة الكوارث الصحية والطبيعية؛ ففى شهر فبراير الماضى، أعلن الكولونيل إدوارد بالانكو، قائد إحدى الوحدات الأمريكية العاملة فى كوريا الجنوبية، عبر فيديو قام ببثه، تشخيص إصابة أحد جنوده الذى يدعى جاريسون دايجو بفيروس كورونا.
تنشر الولايات المتحدة نحو 75 ألف عسكرى خارج أراضيها فى مناطق باتت متضررة بوضوح من فيروس «كورونا»، لذلك فقد بات من المتوقع أن تشهد صفوف العسكريين الأمريكيين خارج البلاد، وربما داخلها، مزيداً من الإصابات.
وفى الفيديو الذى وجهه الكولونيل بالانكو لجنوده برز قوله: «دعونا نعيد تجميع صفوفنا ونهاجم الفيروس»، وهو قول يشير إلى أهمية أن تنتبه القوات المسلحة لعدم اختراق الأزمات والكوارث لصفوفها، فإذا كانت تلك الأزمات تتمثل فى وباء ما، فإن أول محددات دور القوات المسلحة وأول القيود على دورها المفترض فى مجابهة الأزمة يتعلق بمدى قدرتها على البقاء حصينة ضد اختراق الوباء لصفوفها.
لذلك، فقد كان لافتاً أن يتحدث وزير الدفاع الأمريكى مارك إسبر أمام الكونجرس فى نهاية شهر فبراير الماضى، قائلاً: «الأولوية لحماية شعبنا، وأفراد القوات المسلحة وعائلاتهم، ثم التأكد من أننا نحمى قدرتنا على إنجاز مهمتنا».
فى العام 1918، منى الجيش الأمريكى بخسارة فادحة، حين استفحل وباء الإنفلونزا بين عناصره، حيث انطلقت الجائحة من الجيش وانتشرت لاحقاً بين المدنيين.
وبسبب هذه الكارثة، فقد تكونت لدى القوات المسلحة الأمريكية خبرات كثيرة فى التعامل الصحى والإدارى والقانونى فى مثل تلك الحالات، لذلك فإن القوات المسلحة فى الدول التى تشهد انتشاراً للفيروس عليها أن تجعل حرصها الأساسى منصباً على حماية قواتها من الاختراق، لأن فى ذلك حماية لقدرتها على القيام ببقية مهامها.
فى منتصف شهر مارس الماضى، تحدث الرئيس الفرنسى ماكرون إلى شعبه معلقاً على الوضع العام فى مواجهة كارثة «كورونا»، ومما قاله فى هذا الحديث: «نحن فى حالة حرب».
إنها حالة حرب فعلاً تخوضها معظم دول العالم ضد «كورونا»، وللجيوش الوطنية أدوار مهمة فى تلك الحرب بطبيعة الحال، وهو أمر يستلزم توفير الأسس القانونية لعملها من جانب، وتوفير الموارد المالية اللازمة لإنجاز مهامها الطارئة من جانب آخر.