فى عام 2015 حذرت دراسة علمية من ظهور جيل جديد من فيروس كورونا، يخرج من الخفافيش ويكون أخطر من سابقيه. يتحدث فيلم سينمائى وكتاب مهم عن ذلك أيضاً. ولقد بدا الأمر وكأن فيروس كورونا «كوفيد - 19» هو صناعة بيولوجية، وأنه جرى التمهيد لذلك فى المؤلفات والأفلام.
ليس ذلك دقيقاً، ذلك أن العلماء يدرسون أجيال فيروس كورونا منذ عقود، وهم يبحثون تطور فيروس كورونا داخل الخفافيش منذ سنوات طويلة. وهم كذلك يدرسون الخفاش الصينى وعلاقته بأجيال كورونا منذ فترة طويلة. لا جديد إذن.
إن معظم الفيروسات تأتى من خارج الإنسان، ثم إن الخفاش قد نجح فى تطوير جهازه المناعى على نحو يدعو للدراسة، بحيث أصبح الخفاش «مستودع الفيروسات» الآمن. ولقد كان لذلك المستودع دور أساسى فى تطوير فيروس إيبولا وفيروس سارس. لقد بذل العلماء جهداً كبيراً فى مجال علم الفيروسات، ويسابقون الزمن باستمرار لمواجهة ذلك العدو الضئيل، جيلاً وراء جيل، ولقاحاً وراء لقاح.
لقد ضاعفت فكرة «الحرب البيولوجية» من ضغوطها على الساسة والعلماء. لم يعد خطأً قادماً من الخفاش إذن، بل هناك من يعملون ليكون الفيروس سلاحاً لدمار العدو. لم تقع أى حرب بيولوجية حتى الآن، ولكن وقوعها وارد فى مستقبل الصراع. إن استخدام سلاح دمار شامل واحد سوف يستتبع بالضرورة استخدام السلاحين الآخرين. فالسلاح النووى قد يصعب استخدامه دونما استخدام السلاحين الكيميائى والبيولوجى. وفى القوى الكبرى توجد سيناريوهات عديدة لاستخدام السلاح البيولوجى، وتوجد اجتهادات بالمقابل للوقاية من الهجوم البيولوجى.
لكن ما كان يمثل تحولاً رئيسياً فى هذا السياق ليس احتمال وقوع «حرب بيولوجية» بل احتمال وقوع «إرهاب بيولوجى». لقد تكرر استخدام مصطلح «الدفاع البيولوجى» بعد سلسلة حوادث «الإرهاب البيولوجى» المتعلقة ببكتيريا «الجمرة الخبيثة» فى الولايات المتحدة.
فى عام 2016، وأمام «المجمع الفلسفى الأمريكى» -الذى أسسه العالم الشهير بنيامين فرانكلين- ألقت العالمة الأمريكية «بونى باسلر» محاضرة بعنوان «حديث قصير: حوار الخلية مع الخلية فى البكتيريا». قالت البرفيسورة باسلر: إن مجموعات البكتيريا الصغيرة تكون عاجزة إذا عملت بمفردها، لكنها حين تعمل معاً تحصل على القوة والطاقة، ثم تضع استراتيجية الهجوم على الجسد، وتسبب المرض. إنها تتكاثر، ثم تنسِّق، ثم تبدأ «الهجوم المتزامن» بعد أن تصل إلى العدد الكافى لتحقيق الهجوم.
هنا جوهر العمل العلمى.. ذلك أن جحافل البكتيريا تنسق عملها الشامل والمتزامن عبر «التواصل الكيميائى» بينها. هذا التواصل الكيميائى موجود فى الجراثيم الأكثر خطراً مثل الكوليرا والطاعون. إن ما يعمل عليه العلماء هو تمزيق هذا «الاتصال الكيميائى».. أى قطع الاتصال بين الجيش المهاجم، وتشتيت قواه، وإرباك خططه الجماعية. ويحدث ذلك عبر تطوير عقارات مضادة تقوم بقطع ذلك الاتصال.
بعد حوادث «الجمرة الخبيثة» وموجات الأوبئة: زيكا وإيبولا وسارس وغيرها.. جاء الطوفان عام 2020 عبر فيروس كورونا المستجد.
سارعت جامعات العالم الكبرى ومراكز أبحاثها إلى مواجهة الفيروس. وبعد مائة يوم كانت النتيجة: تطوير جامعة «جون هوبكنز» اختباراً لفحص كورونا، وكذلك تطوير جامعة «أكسفورد» لاختبار يستغرق ساعة واحدة. وطورت «هارفارد» اختباراً لفحص تأثير كورونا على المناعة لدى المتعافين من المرض. وبينما أعلنت معاهد «ماكس بلانك» الألمانية عن تجارب واسعة لاختبار مصل جديد جرى تطويره من علاج «السل».. قالت جامعة «أكسفورد» إن فريقها البحثى الذى عمل على علاج إيبولا يطور لقاحاً جديداً من الصفر لمواجهة الفيروس.
لا يزال العالم يحاول ويجرب، وهو ما يؤكد صعوبة الوصول إلى علاج آمن، أو لقاح ناجع قبل فترة طويلة. إن ذلك يطرح علامات استفهام كبرى حول حقيقة «الدفاع البيولوجى»، وعمّا إذا كانت القوى الكبرى تمتلك حقاً دفاعاً بيولوجياً قوياً.
إن فيروس كورونا المستجد ليس نتاج عمل مختبرى، وليس جزءاً من حرب بيولوجية، وليس خطيراً إلى حد كبير. ويؤكد كبار العلماء أن موجته العنيفة قد أوشكت على الانتهاء. من ذلك أستاذ ستانفورد المرموق والحاصل على جائزة نوبل «مايكل ليفيت» وكذلك مدير المختبرات فى جامعة بافلوف الطبية الروسية.
مع أن «كورونا المستجد» ربما أوشك على نهايته، ومع أنه ليس نتاج هندسة وراثية وعملاً مقصوداً، فإن المواجهة قد كشفت العالم جميعاً، كل القوى بلا استثناء.. وفى مقدمتها القوى العظمى.
ماذا إذن لو كانت حرباً بيولوجية؟ ماذا لو كانت هجوماً بفيروس أقوى بكثير، وجرى ترويج ذلك عمداً، ونشره بهدف تدمير الآخر، وقتل الملايين من الجانب المضاد؟ أى دفاع بيولوجى إذن لدى العالم إذا كان هذا مستوى الأداء إزاء كورونا المستجد: إغلاق الكوكب، ومنع الحركة، وحبس سبعة مليارات نسمة داخل جدران منازلهم؟
إن قدرات الحرب البيولوجية حقيقية، ولكن إمكانات الدفاع البيولوجى قد تكون أكذوبة. وهنا مكمن الخطر. ليحفظ الله عالمنا.