«كلنا فى الهم شرق» مقولة تُمثل القاسم المشترك الأعظم فى جائحة «كورونا» التى تعصف بالكرة الأرضية وتُعرى الكثير والكثير من الأكاذيب والأوهام التى سادت عالمنا لسنوات طويلة وسيطرت على عقول البعض وشوهت الكثير من المفاهيم، بل وشوهت عقول البعض الآخر، وخلفت مشاعر الدونية والانبطاح لدى البعض الآخر.
بالقطع نحن لسنا فى مجال «المعايرة» أو «التشفى»، كما أننا إزاء كارثة لا تُفرق بين أبيض وأسود أو شمال وجنوب أو غنى وفقير أو مسئول ومواطن، لكننا فعلاً إزاء حالة بالتأكيد ستكون لها تداعيات عميقة، وستترك على العالم تأثيرات متنوعة وجادة، ربما تسهم فى تبديل وجه الأرض.
واحدة من تلك المظاهر، انكشاف الادعاء الغربى بالتميز والسمو على العالم، وتوفير الحياة الرغدة الكريمة لشعوب بلدانهم، بعد انهيار النظم الصحية والعلاجية، وعجز إمكانات المشافى عن تلبية الاحتياجات، وعدم قدرة النظم الإدارية على التعامل السريع مع تطورات الأزمات، والضعف الواضح فى القدرات التخطيطية والتعامل المُسبق مع الأزمات المفاجئة.
صحيح أن الأزمة أكبر وأقوى من القدرات البشرية، وصحيح أيضاً أن الأوبئة لا ترسل «مراسيل» تحذر من الوصول، وصحيح كذلك أن التداعيات مرعبة ومذهلة، لكن ذلك كله لا يبرر ما نشاهده من مظاهر ووقائع وأحداث، أهمها ضَعف التواصل بين مؤسسات الدولة وبين شعبها، وعدم قدرة الحكومات على إلزام شعوبها بإجراءات محددة فى ظل ظروف غير طبيعية، ولا يتلاءم معها الممكن وغير الممكن فى الأوضاع الطبيعية التقليدية.
المؤكد أن متغيرات مهمة للغاية تنتظر البشرية بعد تجاوز أزمة كورونا، والمؤكد أن ما كنا نراه سيختلف فى المستقبل، سواء من جانب العلاقات الدولية، أو التحالفات والتكتلات الإقليمية، أو القدرة على لعب دور قيادى فى العالم، والأهم والأبرز هو طبيعة القواعد التى ستحكم العلاقات بين الحكومات وشعوبها.
لقد أثبتت الأحداث أن الإطارات القانونية الحاكمة والمُنظمة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، غير مناسبة ولا تُلبى احتياجات الناس، وأن موضع تلك الحقوق فى أولويات هذه الأمم، وترتيبها فى جدول الاحتياجات مخالفة للحقيقة تماماً، وأن اعتبار الحقوق السياسية والمدنية إنجازاً حضارياً لا تسمو فوقه حقوق أخرى، كل هذه اعتبارات أثبتت محنة كورونا أنها ربما كانت ملائمة فى أوقات ما، لكنها وحدها لم تعد ملائمة للمستقبل.
المسألة لن تقف عند حدود حقوق واحتياجات الناس، أو عند حدود الأسس المنظمة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، أو طبيعة العلاقة بين الحكومات وشعوبها، وإنما فى الأغلب ستتجاوز كل ذلك إلى طبيعة العلاقات السياسية بين الدول، حتى داخل الإقليم الواحد.
والمتابع لردود فعل الأزمة وتداعياتها، يرصد من أول وهلة وبسهولة شديدة، بدء تكوين وتبلور مشاعر وطنية وإحساس بالأذى والضيق من الحالة السياسية القائمة، ورغبات فى تغيير الوضع القائم، والتخلى عن ثوابت كثيرة حكمت العلاقات داخل القارة العجوز، منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن، وهى مشاعر لم تتوقف عند حدود مظهر هنا وآخر هناك، وإنما تجاوزت كل ذلك إلى تحذيرات مثل تلك التى أطلقها رئيس وزراء إيطاليا عن مستقبل الاتحاد الأوروبى، فى ظل انصراف كل دولة عن بروتوكولات الاتحاد، وإيلاء جل اهتمامها للداخل، فى ما يمكن اعتباره انكفاء على الذات، بالتعارض مع ما كان متوقعاً وفقاً للأوضاع السائدة.
لا يجب التوجه بعيداً فى تأثيرات وتداعيات محنة كورونا المستقبلية، ولكن المؤكد أن متغيرات حقيقية ستحدث، بعد أن أظهرت كل الشواهد أن ثغرات عديدة اخترقت النظام العالمى، بكل ما فيه من قيم وثقافة، وبعد أن اكتشفت الدول المتقدمة، أن خللاً خطيراً تسرب إلى نظامها الذى كانت تفتخر به بين شعوب وأمم العالم.
الشاهد أن المعلومات المتواترة والمتوافرة عبر كل وسائل الإعلام، بخصوص تعامل الدول والحكومات مع المحنة، أظهر فروقاً كبيرة، وكشف عن تباين واضح فى قدرات التعامل مع الأزمات واستيعاب نتائجها، وأنا أقصد هنا تعامل الصين فى مواجهة الغرب، والقدرة على توظيف الإمكانات والقدرات، فى مواجهة الأزمات العنيفة، لتحويل المحنة إلى منحة، وهى سمة من سمات الأمم العظيمة، وهى أيضاً مؤشرات تقول إن عملاقاً صاعداً أثبت قدراته وبما سيفرضه فى مكانة متقدمة لقيادة العالم على غير ما كان.
الحاصل أيضاً أن تلك المحنة الإنسانية ستمثل لنا كذلك متغيراً مهماً، خصوصاً من ناحية هؤلاء الذين انبطحوا أمام الغرب، معتبرين أنهم ذروة التقدم والحضارة، وأننا نموذج التخلف والفشل، وإن كان هناك فعلاً فارق فى العديد من الجوانب، لكن المؤكد أيضاً أن مشاعر الزهو والتفاخر بالضفة الأخرى من البحر على حساب مشاعرنا تجاه الوطن، قد انكشف زيفها وتبين مدى الوهم والعبث الذى اجتاح عقول هؤلاء.
جائحة كورونا مرحلة فاصلة بين عصرين.