«اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِى حِينَمَا تَقَعُونَ فِى تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً»
الكتاب المقدس- العهد الجديد، من رسالة يعقوب الرسول
كم كان مثيراً لفضولى واهتمامى فى الأيام الماضية، ومع اشتداد تداعيات الجائحة الكورونية المربكة للوجدان تلك، أن أتابع ما يتم نشره من أخبار تجمع فى طياتها بين الجائحة والدين، مثل حكاية المبشر المسيحى الأمريكى كينيث كوبلاند، الذى وعد مشاهديه بالشفاء إذا مدوا أيديهم إلى الشاشة حيث يمد هو يده من الجانب الآخر، ومثل رجل الدين الإيرانى الذى ورد أن اسمه مرتضى كوهنسال، والذى تم تصويره بينما يطوف مشافى طهران بزجاجة زيت عطرى «نبوى» يطلب من المرضى أن يستنشقوه كى يبرأوا من دائهم. ناهيك عن سكان قرية مونتالدو تورينيس، شمالىّ إيطاليا، التى يعتقد بعض أهلها أن قريتهم نجت إلى الآن من جائحة كورونا لأن ما يحميهم هو ماء البئر غامض الإعجاز، الذى تروى أساطير القرية أنه عالج قوات نابليون بونابرت من الالتهاب الرئوى!
عموماً، لم تكن الجوائح والطواعين وما شاكلها من الخطوب الكبيرة على مر التاريخ تستفز دائماً ردود فعل عقلانية من المجموعات البشرية، بل على العكس، كان الإنسان غالباً -حتى مع التطور النسبى للطب والعلوم المخبرية المتعلقة بدراسة الفيروسات والبكتيريا وسواها- فزّاعا إلى الغيبى، عاجزاً عن تفسيخ العلاقة بين الأوبئة والكوارث وغضب الطبيعة من ناحية، وبين الغيبى أو الإلهى أو المقدس من ناحية ثانية. ولعل أكثر النصوص التاريخية الموثقة لهذا الربط بين الوباء والعالم الغيبى دراماتيكية، كانت النصوص التى كُتبت وقت موجات الجدرى والطاعون فى أوروبا القرن الرابع عشر، حيث ربط المتدينون المسيحيون بين الجائحة ونهاية العالم، أو غضب إلهى مرتبط بآثام البشر، خاصة عندما كانت تتزامن الأوبئة مع ظواهر أخرى تشى بغضب الطبيعة مثل الزلازل.
فى دراسة أعدها قبل عدة سنوات ديفيد هيوز، وهو بروفيسور بجامعة بارك- بنسلفانيا بالتعاون مع عدد من زملاء له من تخصصات مختلفة، دأبوا على محاولة فهم كيف تؤثر العقيدة فى مسلك الناس فى فترات الجوائح والطواعين، وكيف تؤثر الجوائح بالعكس فى العقائد.
من بين أهم الأسئلة التى حاولت الدراسة الإجابة عنها: كيف يلقى البعض بأنفسهم طوعاً فى أماكن الأوبئة لمساعدة ضحاياها دون خوف من العدوى؟! لماذا يختار إنسان صحيح البدن أن يموت بينما يحاول مساعدة آخر مصاب بالطاعون أو الدرن أو الإيدز أو الجذام، أو أى من تلك الأوبئة المفزعة؟ فالباحث، الذى يشارك قراءه فى مطلع دراسته حقيقة أنه لا يؤمن بوجود قوى غيبية، يجد هذا المسلك الاستشهادى الفدائى مهلكاً، وبالتالى غير منطقى. هنا، يستنتج الباحث الدارونى أن العقيدة بمكوناتها الغيبية المُسلّمة لقوى كونية أكبر من الأوبئة والطواعين ذاتها، هى المفتاح المفسر لمثل هذا السلوك «الغريب». فالعقيدة المسيحية على سبيل المثال، وقد وقف فى قلبها المسيح عيسى عليه السلام مخلّصا، يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله بحسب التعبير القرآنى، لا عجب أن تجد فى أبنائها ميلاً لبذل ذلك النوع من العطاء تحديداً.
كذلك فإن المسلم الذى هدته سُنة نبيه صلوات الله عليه وسيرتُه إلى تجنب أرض الطاعون، وعدم الحراك منها إذا حلّ بها والمرء فيها، وإلى أن الموت بالطاعون شهادة، وإلى أنه مع الأخذ بالأسباب يظل التوكل على الله وقاء، وقد أكل النبى فى إناء واحد مع المجذوم مسمياً بالله متوكلاً عليه، يجد المسلم غالباً فى هذه التوليفة، مسلكاً وسطاً بين الأخذ بالأسباب، وحفظ النفس والتسليم لأمر الذات العليّة فى آن. الشق الثانى من التساؤلات فى دراسة هيوز ينصب على تأثير الجائحة فى عقيدة الجماعات المؤمنة، فالمثير للاهتمام أنه عبر التاريخ كانت حركة النزوح الجماعية الناجمة عن استيطان الجائحة فى أرض ما تؤدى ببعض هذه الجماعات إلى اعتناق عقيدة الأرض الجديدة، التى توفر الأمان وترحب بهؤلاء الوافدين من أرض البلاء.
كما وُجدت أمثلة متعددة بالأرقام والإحصاءات تدل على أن الأمر لا يقتصر على التاريخ البعيد فقط، بل إنه حتى سنوات قليلة مضت (وربما حتى وقتنا هذا) فإن العديد من الأفراد الذين هزمت الأوبئة أجسادهم يتحولون إلى عقائد الذين لازموهم واهتموا بهم فى فترات مد المرض (وهو ما رُصد على سبيل المثال خلال السنوات القليلة الماضية فى قرى مالاوى فى أفريقيا التى يُعد مرض المناعة المكتسب (إيدز) أحد أهم أسباب الوفاة بين البالغين فيها، وقد تحولت أعداد منهم إلى دين معالجيهم، وكان التحول غالباً من الديانات الأفريقية الوثنية إلى المسيحية).
ومن بين كل الحكايات والصور، تظل الصورة «البطلة» فيما طالعتُ مؤخراً، صورة لشابين مسعفين فى تل أبيب، يصلى أحدهما مستقبلاً قبلة المسلمين، ويصلى الآخر مستقبلاً قبلة اليهود، وفى خلفيتهما سيارة الإسعاف التى يعملان عليها، بينما ينعمان بسلام المصلين فى استراحة يحظيان بها معاً وقد خرجا لتوهما من إحدى معاركهما اليومية ضد الكورونا. فالراسخ أيضاً فى التجربة الإنسانية أن الجوائح حين تكبر على احتمال البشر، تكبر معها كذلك حكمتهم الفطرية وإنسانيتهم الكامنة، فيكبرون على الاختلاف، ويتوحدون فى وجه البلوى.