«كورونا» لن يترك بعد اليوم مجالاً للمجاملة أو المسايسة أو المهادنة أو الملاطفة، الجدية والانضباط والانتظام عنوان الدول التى حاصرت هذا الوباء، وفى طريقها للقضاء عليه، والعلم والعلماء فى مقدمة الصفوف والقيادة والريادة، وإليهم يرجع الأمر كله، لا مجال للعبث أو الهزل، والأزمة قد كشفت وعرَّت الكثير من المنظومات الهشة والرخوة، وأظهرت عجز وفشل قيادات كانت تتقدم الصفوف فى كل المناسبات، وتتربع على القمة دون علم أو خبرة، وكانت بضاعتها الفهلوة وشراء الذمم والإعلام والأصوات، فسقطت جميعها لحظة الاختبار، وتراجعت إمكانياتها لحظات الاحتكاك الأولى، وسقطت فى أول سؤال إجبارى فى الامتحان، ناهيك عن تعرية أصحاب النفوس الضعيفة هذه، التى تتمنى دمار البلاد وانتشار المرض والوباء، واستعجال الخراب، وكان أشرف لهم تمنِّى السلامة للبلاد وللعباد، فهى بلادهم والعباد إخوانهم، ولا أدرى من أى طينة جاءنا هؤلاء، أن تختلف مقبول، وأن تعترض وتتذمر جائز، حتى لو كممت الأفواه وحبست الأصوات، فليس مبرراً لأمانى الدمار وهلاك الناس، واستعجال المصيبة قبل أوانها، فربما يوماً يخجلون أمام أولادهم عن قريب.
ولا نخفى سراً أن كثيراً من المنظومات تحتاج إلى إعادة نظر، وإعادة ترتيب الأولويات والأسبقيات، ولقد كشفت الأزمة أن الإنسان هو الأوْلى بالبناء والتعليم والرعاية، فما فائدة أن تترك لجاهل أو مريض ثروة لا يقدر على إدارتها، أو الحفاظ عليها؟! فمصيرها إلى التبديد والزوال، وهذا ليس اختراعاً جديداً، بل هو قديم من عشرات السنين، نراه ونلمسه فى الدول الناجحة، وقد كأن أوْلى بالاتباع.
واختيار القيادات لشغل المناصب العليا لا بد أن يخضع لقواعد صارمة ودقيقة، بها ينجح العمل وبغيرها يفشل، العلم والخبرة والقدرة على القيادة والتفرغ الكامل، أولويات بعضها يسبق بعضاً، وهى معدومة فى منظومات كثيرة فى بلادى، وكانت دعوة كريمة تبناها من زمن ليس ببعيد الدكتور محمد غنيم، الذى طالب بتفرغ الأستاذ الجامعى وأساتذة البحث العلمى تفرغاً كاملاً، وكان نجاح مركز الكلى بالمنصورة إحدى العلامات البارزة لنظرية التفرغ التى طالب بها، والتزم بها، وأذكر هنا وبالمناسبة للدكتور جمال شعبان، مدير معهد القلب القومى السابق، الذى أُقيل من منصبه ظلماً، حسنة إلى جانب حسناته، أنه قد تفرغ تفرغاً كاملاً لإدارة المعهد، وأغلق عيادته الخاصة، وما كان له القدرة على هذا النجاح الذى حققه بشهادة الجميع إلا لتفرغه الكامل لإدارة المعهد ليل نهار، واضطلاعه شخصياً بكل صغيرة وكبيرة، واتخاذه القرارات المصيرية فى الوقت المناسب، وتعايشه مع مشكلات وأوجاع المرضى لحظة بلحظة لقربه منهم، وما كانت كارثة معهد الأورام القومى الأخيرة وإصابة هذه الأعداد من الدكاترة والممرضات بفيروس كورونا إلا جراء هذا التباعد وهذا الإقصاء الاختيارى، وما صاحب هذا من تقصير وإهمال وتهاون وإبطاء فى التصدى لهذا الخطر فى بداياته، وقد كان سهلاً السيطرة عليه، لو كان المسئولون على رأس المنظومة وقت اللزوم، ولو طبقوا جميع الإجراءات الاحترازية على كل العاملين فى المعهد، وما تسبب هذا الممرض الذى يعمل فى عيادات ومستشفيات خارجية فى نقل الفيروس إلى زملائه وهدد المرضى فى مقتل، وهو كغيره من العاملين سواء فى المعهد أو جميع المستشفيات فى مصر، والتفرغ الكامل للإدارة يعطى مساحة أوسع للتتبع وفرصة أكبر للملاحظة، وربما كانت هذه الإجراءات موجودة واجبة التنفيذ داخل المعهد، لكنها غير قائمة، وتكاسل المسئول عن التنفيذ حين تقاعست وتكاسلت الإدارة العليا عن المراقبة وغابت عن المتابعة، الخلل فى منظومة العمل داخل معهد الأورام القومى ليس ببعيد عن مستشفيات كثيرة فى مصر، بل قريب، وقد أصاب مستشفيات أخرى، ولو تعرض غيره لنفس الظروف لربما كانت النتائج أسوأ بكثير من نتائج معهد الأورام، وفاقت أعداد المصابين أعداده بمراحل. وأول ما نفكر فيه بعد هذه الجائحة أن نعيد النظر فى قواعد اختيار المناصب العليا، ونبدأ بتعريفها وتحديدها أولاً، وألا تتم الترقية إلى هذه المناصب بالتزكية أو بالدور، بل بالترشيح المفتوح، على أن يتم وضع القواعد الصارمة بدرجاتها والتى يجتازها المتقدم سواء من داخل المنظومة أو خارجها على أن يكون ضمن هذه القواعد التفرغ الكامل لإدارة العمل. إن صحة المواطن تأتى فى المقدمة، ومقدمة الأعمال منظومة علمية دقيقة، بعيدة عن المجاملات والمحسوبيات، تبدأ من حسن ودقة اختيار القيادات، وأن تكون قيادات علمية ذات خبرة عالمية، ومتفرغة تفرغاً كاملاً للإدارة، من هنا نبدأ الفصل التام بين عيادات الأساتذة والمستشفيات، والكل يعلم أن جواز مرور المريض إلى المعهد أو مستشفيات كبرى فى مصر يبدأ من عيادة الطبيب، وهو خلل فاضح لا بد من إيقافه بقرارات ثورية سياسية مدروسة. آن الأوان أن يلتزم الجميع بمنهج علمى مدروس، وبروتوكولات عالمية محددة، تطبق على الجميع دون مجاملة، الثمن أغلى وأكبر، ندفعه فى النهاية نحن الشعب، ويجنى ثماره وأرباحه كل الانتهازيين.