خرجت ووهان من الحجر الصحى، ودخلت كل الولايات الأمريكية تحت مظلة الطوارئ، خرجت بؤرة الوباء العالمى من أزمتها، ودفعت بقائد العالم إلى قلب الأزمة، يبحث عن مخرج بعد أن تضاعفت مأساته وآلامه.
من أبرز ملامح هذه الأيام، دخول الصين ما يمكن تسميته مرحلة التعافى من الفيروس، بينما سقطت عواصم غربية كبرى فى المأساة، وبينما كان العالم متعاطفاً مع تزايد أعداد الضحايا فى الصين، انقلبت المشاعر الإنسانية حول الكون إلى الشعور بالفزع من الأرقام المرعبة المتصاعدة للخسائر البشرية فى مختلف ربوع العالم، مع تراجع الأرقام.
ربما كان هذا التباين فى المواقف والمظاهر، هو السبب الرئيسى وراء تبادل وتصاعد الاتهامات بين الأطراف المختلفة، الرئيس الأمريكى ترامب يتهم منظمة الصحة العالمية بالانحياز إلى الصين، و«دويتشه فيلله» تتهم الصين بإخفاء المعلومات عن المجتمع الدولى، والتسبّب فى وباء كورونا القاتل، وإيطاليا تتهم حلفاء الأمس فى الاتحاد الأوروبى بالتخلى عنها، بعد كل ما قدمته الحضارة الإيطالية من ثقافات وعلوم وإنسانيات إلى القارة العجوز، وهكذا صار التخبّط وتوجيه الاتهام، قاعدة لمرحلة مقبلة، يبدو أنها ستُسهم فى صياغات مختلفة عما كنا عليه قبل شهور قليلة.
واذا كان الرئيس ترامب قد دعا منافسيه من الحزب الديمقراطى إلى الامتناع عن توظيف «كورونا» فى الخلاف السياسى، فهو نفسه قد أقحم منظمة الصحة العالمية فى صراع بلاده السياسى مع الصين، وهو ما دفع بالرئيس الفرنسى ماكرون -المختلف غالباً مع ترامب- إلى دعوته للتخلى عن استخدام كورونا أو الزج بالمنظمة الدولية فى الصراعات السياسية، وهى فى الأغلب تشير إلى مدى الارتباك السياسى لدى قادة الدول الكبرى فى العالم.
الشاهد أن العالم بكل قياداته الحالية ورموزه السابقة، والذى خطط لإقامة نظم، وإسقاط أخرى، وأسس أوطاناً، وقام بتقسيم مناطق بقرارات سياسية تحسّباً للمستقبل، وصاغ استراتيجيات، ورسم خرائط للمستقبل، واقتحم الفضاء، وغيرها من مئات، بل وآلاف الاختراعات العلمية، لم ينتبه وهو يزعم قيامه بكل ذلك من أجل تطوير الحياة الإنسانية والعمل على رفاهية البشر، أن ينتبه أو يضع سياسات واستراتيجيات وبدائل، للتعامل مع أزمات تهدّد الجنس البشرى، وهو الذى برع فى وضع البدائل والسيناريوهات للصراعات السياسية، من أجل المصالح والنفوذ.
الحاصل أن العالم خاض خلال القرن الأخير، صراعات مسلحة عنيفة، فى حربين عالميتين، وعشرات الحروب والصراعات الإقليمية المتناثرة هنا وهناك، وتبدلات وتغيّرات سياسية عميقة فى النظم السياسية، أدت إلى تقسيم العالم إلى كتلتين، وكانت كل هذه المظاهر من صنع البشر، وبإرادتهم السياسية، وفى مواجهات مباشرة وواضحة، لكن أحداً لم يواجه شبحاً مجهول الهوية، ولا عدواً غير مرئى، لا تستطيع الإرادة الإنسانية بكل ما تملكه من أدوات علمية وأسلحة متطورة، إسكاته والقضاء عليه.
هى تجربة فريدة من نوعها، أربكت الكبار قبل الصغار، وتسبّبت فى نزاعات وصراعات ما زالت فى مرحلة البلورة، وإن كانت الشواهد واضحة وجلية، وأدخلت العالم فى أزمات اقتصادية طاحنة، خارج نطاق كل الحسابات والتوقعات، سنشهد تداعياتها ونتائجها قريباً توقفت عجلة الإنتاج فى بلدان كبرى، من دون طلقة رصاص واحدة، وإنما بسبب هجوم عدو خفى، أطاح بالاستقرار العالمى، ويمهّد لعالم مختلف.
ظنى أن صدمة العالم جراء الأهوال التى يعيش فى ظلها الآن، وانشغاله بمحاولات محمومة للسيطرة على الوضع، ووقف الانهيار الحاصل، وراء الصمت على مرارات ومشاعر بغيضة تتراكم تحت الجلد، فى انتظار اللحظة المناسبة للانطلاق، كشلال يبحث عن ثغرة ليندفع من خلالها.
البادى أن تياراً يمينياً صاعداً فى أوروبا، تمكن خلال الأعوام الأخيرة، من تحقيق اختراقات مهمة فى أوساط الرأى العام، وبلور نفسه فى الكثير من المؤسسات الأوروبية المهمة المؤثرة فى صياغات السياسات، مثل البرلمان الأوروبى، أو حتى لقيادة ائتلافات حاكمة داخل أوطان أوروبية، وهو تيار له صفات محدّدة أبرزها العداء لفكرة الاتحاد الأوروبى، وكراهية الأجانب، والعداء مع الإسلام والمسلمين من غير تفرقة بين مسلم وإرهابى.
أعتقد أن اللحظة تتفاعل مع مشاعر وطنية متأججة، والخشية أن تعمل لصالح التزاوج مع التيارات اليمينية المتطرّفة، خصوصاً بعد حالة الانكفاء الذاتى، التى شهدتها أغلب دول أوروبا، فى التعامل مع طوفان وباء كورونا، ودفعت الملايين للتساؤل عن جدوى كل ما كان، بعد أن أظهرت النتائج على الأرض، أن كل تلك البروتوكولات لم تحقق المرجو منها، بل انهارت فى أول مواجهة شاملة مؤلمة.