(1) ارتفعت الأصوات التى تهتف بعودة الشرعية فى مقدمة الشارع. لم يعد عددهم كبيراً كما كان. يبدو أن المؤمنين بعودة مرسى قد تناقصوا كثيراً خلال الفترة الأخيرة.
«ألن يكفَّ هؤلاء المخابيل عن هذا الهراء؟»، قالها أحمد علاء، الطالب بكلية الهندسة فى تلك الجامعة الإقليمية لنفسه: «سوف أصور هذه المسيرة كى أثبت لمعتز أن عددهم أصبح قليلاً بالفعل وليس كما تصوره تلك القناة المغرضة».
أمسك بهاتفه المحمول ووضعه على وضع التصوير، ثم أخذ يصور هذه المسيرة الصغيرة التى ترتفع فيها تلك الأعلام الصفراء بصورة مبالغ فيها حتى إنك لتظن أن عددهم أكبر مما هم عليه بالفعل. لقد أصبح يكره هذه العلامة اللعينة. إنه لا ينسى ما حدث حين رفع أخوه الأصغر من نافذة منزلهم لأحد حامليها علامة النصر. لقد تم تكسير كل زجاج النوافذ فى عمارتهم يومها بالطوب الذى ألقاه هؤلاء الموتورون!
ارتفعت فى الجانب الآخر من الشارع أصوات سيارات الشرطة، وتصاعد دخان كثيف تعوّد على رائحته فى الفترة الأخيرة، وبدأت المسيرة الصغيرة فى الهرب والركض فى الاتجاه المعاكس. كان يحاول ألا تفوته لقطة واحدة وهو يصور فرار هؤلاء المدعين أمام قوات الشرطة. سوف يسخر من صديقه كثيراً بالتأكيد.
اهتزت يده فجأة حتى كاد هاتفه المحمول أن يسقط منه بعد أن سقطت على كتفه قبضة ثقيلة. التفت ساخطاً إلى صاحبها الذى سأله بسخرية مستفزة:
- وانت بقى مابتجريش ليه معاهم؟ انت الشجاع اللى فيهم يعنى؟
- وأجرى ليه؟ أنا مش معاهم أصلاً.. أنا ساكن هنا فى الشارع ده وكنت باصوّرهم بس.
-انت هتحكيلى قصة حياتك؟ ياللا يا... وهات الموبايل ده!!
- انت بتشتم ليه يا عم انت؟ أنا مش معاهم وساكن هنا وممكن تسأل أى حد فى الشارع.
«وادى واحد كمان يا باشا».. وجد نفسه فى الجزء الخلفى لهذه السيارة الزرقاء مع بعض الشباب.. بعضهم كان فى المسيرة بالفعل، وبعضهم لا يعلم هو من أين أتوا. سوف يتطلب الأمر بعضاً من هدوء الأعصاب وسيشرح للضابط كل شىء وسينصرف سريعاً.. فلديه اختبار عملى آخر غداً فى الكلية وينبغى أن يعود سريعاً لاستذكار دروسه!
(2) «الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق».. مادة 54 من دستور مصر 2014!
(3) ارتفعت أصوات أقدام كثيرة تهرول فى هذا الرواق الطويل. إنهم يقتربون مسرعين. يستطيع الآن تمييز والدته. يبدو أنها قضت ليلة عصيبة بالفعل، فلم يعد هو منذ عصر الأمس، ولم تعرف مكانه إلا فى ساعة متأخرة من الليل. أحد القادمين تبدو على وجهه آثار الجدية. يبدو أنه المحامى الذى أخبروه أمس أنهم سيأتون به ليحضر معه التحقيق فى النيابة.
لم يتم التحقيق معه فى قسم الشرطة من الأساس. لقد قضى طوال الليلة الماضية فى «التخشيبة». لم يكن يشغله شىء إلا الاختبار الذى سيفوته فى الكلية. لقد كانت ليلة عصيبة على الجميع.
- «بيقولوا علىَّ إخوان؟؟ ده انا ماباكرهش قدهم!»
- لماذا لم تجرِ يا أحمد؟
- ولماذا أجرى يا أستاذ؟ أنا لم أفعل شيئاً!
طمأنه المحامى بابتسامة باهتة «إفراج إن شاء الله».. لم يكن صوته مطمئناً بالدرجة الكافية، لكنه ابتسم لوالدته: «ماتخافيش يا ماما.. هاروّح معاكم إن شاء الله زى ما قال الأستاذ».
«لماذا لم تجرِ يا أحمد.. لماذا لم تجرِ؟».. قالتها والدته من بين دموعها!!
(٤) «ربنا يسهل يا أستاذ».. اللى بعده!
كانت هذه الجملة التى لا تعنى شيئاً هى رد السيد وكيل النيابة على المحامى الذى دخل مع أحمد غرفة التحقيق!.. ماذا تعنى؟ لا أحد يعلم!
(٥) من حقك أن تسير فى الشارع بحرية.. ومن حق وزارة الداخلية أن تقبض عليك بنفس الحرية!!
(٦) خمسة عشر يوماً على ذمة التحقيق!!
لم يستمع السيد وكيل النيابة إلى دفاع المحامى، بل يبدو أنه لم يستمع إلى أحد. لقد تم اتخاذ القرار بالحبس الاحتياطى لكل المتهمين!! كما لو كان القرار قد تم اتخاذه مسبقاً.
خمسة عشر يوماً قضاها أحمد فى السجن دون أن يعلم ما هى تهمته بالضبط!! ودون أن يتم أخذ أقواله فى قسم الشرطة.. حتى حين تم أخذ أقواله فى النيابة، يبدو أنه لم يستمع إليها أحد!
لقد تم الإفراج عنه بكفالة عشرة آلاف جنيه! وفاته معظم اختبارات العملى فى كليته، وأصبحت مسألة نجاحه هذا العام من أساسها محل شك كبير!!
سوف يقدم أحمد إلى المحاكمة. وقد يتم الحكم عليه بالسجن بتهمة لم يرتكبها. ويعلم الله وحده كم «أحمد» ما زال يقضى فترة الخمسة عشر يوماً فى السجون الآن وهو لا يعلم أيضاً أن جريمته الوحيدة.. أنه لم «يجرى».
ملحوظة: أحداث هذه القصة حقيقية تماماً. وأى تشابه بينها وبين الواقع هو مقصود، لعل أحداً يستطيع الإجابة على هذا السؤال: لماذا لم يجرِ أحمد.. أو لماذا يجرى؟