يجب ألا تكون حرية الإعلام والإبداع موضوعاً للمساومة، ويجب ألا نبالغ فى وضع قيود فى هذا المجال، لأن التدخلات بعدها لن تتوقف، وسنجد أنفسنا نسأل يوماً: «هل يمكن أن تظهر امرأة على الشاشة؟»، أو «ولماذا لا يُجرى الحوار مذيع رجل بدلاً من مذيعة امرأة؟».
بفتح الباب أمام هذه الهجمات والإجراءات المقيّدة سيمكن لأى فئة أو طائفة أو جماعة ضغط أن تفرض على المنتجين والكتاب والمبدعين ما يكتبون، وأن تمنعهم من تناول قضايا مجتمعية بعينها بغرض حماية الصورة الذهنية أو حماية الأخلاق أو حماية الأمن القومى.
بعض المجتمعات اجتهدت لكى تضع مقاييس تُمَكِّنها من اتخاذ قرارات فى شأن أنماط أداء إعلامى أو إبداعى مثيرة للجدل، باعتبار أن حرية الرأى والتعبير لا تعنى الموافقة على كل شىء يُكتب أو يُقال أو يُصور، لأن هناك خطوطاً لا يمكن تجاوزها.
ومن أهم ما توصلت إليه تلك المجتمعات أن حرية الرأى والتعبير مصونة ولا تمس، لكنها يجب أن تُقيّد عندما تثير الكراهية، أو تحرّض على العنف، أو تطعن فى المعتقدات المقدّسة، أو تختلق وتزيّف الأخبار، أو تشجّع التمييز، أو تنال من الحقوق الثابتة للآخرين.
لقد حاولت المحكمة الأمريكية العليا أن تُرسى معياراً للتعامل مع «حرية الإبداع» فى عام 1973، فرأت أن تستند إلى صيغة طوّرها أحد المفكرين، وهى صيغة تمت تسميتها «مقياس ميلر» Miller Test، وهو المقياس الذى يجيز أى عمل فنى أو فكرى أو إبداعى أو إعلامى إذا استوفى شروطاً ثلاثة؛ هى: عدم خرق القوانين النافذة، وتأييد أو موافقة قطاع مؤثر من الجمهور، والانطواء على جهد فنى وإبداعى خاص.
علينا أن نحاكم الأعمال الإعلامية والفنية والأدبية بمثل تلك المعايير، وليس بمعايير سياسية وهواجس وتأويلات أخلاقية وصراعات مصالح.
يجب التفرقة بين شخص تحدّث من منبر إعلامى، فأثار الكراهية، أو طعن فى المعتقدات المقدّسة لدى قطاع من المواطنين، أو حرّض على العنف، أو نال من الأعراض، وبين من طرح فكرة درامية أو قدّم برنامجاً إعلامياً لم ينل تأييد أو تقبُّل قطاع من النخب والجمهور.
تحفل الأنشطة الإبداعية والإعلامية المصرية بالكثير من جوانب العوار والخلل، مما يستلزم جهوداً رسمية ومجتمعية منسّقة لإخراجها من عثرتها وتطويرها وحملها على اعتماد أسس أكثر احترافية وأكثر إخلاصاً لقيم الإبداع؛ وهى عملية صعبة ومعقّدة، لا يخدمها القمع والمصادرة والتقييد.
لا يمر شهر رمضان من كل عام من دون جدل حاد واهتمام كبير يصاحبان عرض برنامج المقالب الذى يقدّمه الممثل الهزلى رامز جلال. سيكون هذا البرنامج عنواناً لمرحلة إعلامية وفنية بكاملها، شهدت إنتاج سلسلة من الأعمال، التى أذيعت على مدى سنوات، وهى أعمال تلعب على أبشع نزعات الضيوف: الخوف، كما تلعب على أسوأ سمات الجمهور: الازدواجية.
يصور البرنامج فى كل حلقة من حلقاته نجماً من النجوم يتعرّض لـ«مقلب ساخن»، يفقد خلاله أعصابه، ومعها وقاره المفترض. ثمة إشارات كثيرة إلى أن تصوير البرنامج، وتدبير «المقلب»، يتم بالاتفاق مع النجم، الذى يحصل على عائد كبير.
ورغم ذلك، فإن أنفاس الجمهور تحتبس وهو يتابع «النجم المحبوب» يواجه تحديات «المقلب»، وملامح الرعب ترتسم على وجهه.
بعض الفنانين المشاركين أظهروا أنهم جرحوا، أو صدموا، أو أشرفوا على الموت، لكن كلهم بلا استثناء، ضرب «رامز» أو «سبّه». معظم السباب كان من النوع الذى لا يمكن أن يُذاع على قناة عربية.
تلك ذروة «إبداع» البرنامج إذاً: الشتائم، والضرب، وإهانة الكرامة الإنسانية.
يريد بعض المعلقين والمحللين والخبراء أن ينتقدوا برامج المقالب، وأن يعدّدوا «مخاطرها ومفاسدها»، وأن يدعوا القائمين عليها إلى «الهداية» وعدم التورّط فى إنتاجها مجدّداً، «حفاظاً على الفضيلة، والتقاليد، والمهنية».
يقوم هؤلاء بكتابة المقالات أو الحديث إلى الصحف، مندّدين بهذا البرنامج وأمثاله.
ويسعى بعض الصحفيين إلى كتابة موضوعات عن «تجاوزات رامز جلال وبرنامجه»، ويتعاطف آخرون مع الضيوف، الذين «يهينهم رامز أو يرعبهم»، ويطالبون المجتمع والجمهور بالانتصار لـ«الكرامة الإنسانية واحترام الخصوصية».
حسناً، إننى لا أصدق كل هذه الدعاوى والموضوعات، ولا أعتقد أنها تقدم تغطية عادلة وذكية لقضية «برامج المقالب»، بل أرى أنها تستثمر تلك البرامج، وتتطفّل على نجاحها، وتسعى للرواج عبر الطعن فيها وتوجيه النقد القاسى لها.
ثمة الكثير من الآراء والانطباعات التى يمكن أن نوردها إذا أردنا أن نحلل موضوع «برامج المقالب»، وعلى رأسها برنامج «رامز جلال»، لكن هناك حقيقة واحدة واضحة وضوح الشمس بخصوص مثل هذا البرنامج، وهى أنه يحظى بأكبر مشاهدة، ويحصل على أكبر عائد إعلانى، فى أكثر من مجتمع عربى.
يصعد رامز جلال، وبرنامجه، كل رمضان، على «مسرح العقاب»، ويجمع أكبر قدر ممكن من الشتائم، والانتقادات، والقضايا، والبلاغات، والنصائح، والدعوات بالهلاك أو بالهداية، وفى النهاية لا يبقى سوى أنه يتصدر قوائم المشاهدة.
وفى اعتقادى أن جميع ما يتم بخصوص مثل هذا البرنامج يجرى وفق منطق توزيع الأدوار، بمعنى أن كل مشارك لديه دور محدّد، ونظير قيامه بهذا الدور يحصل على عائد محدّد، وهو أمر لا يشمل العاملين فى البرنامج فقط، لكنه يمتد إلى الضيف، وإلى نقاد البرنامج، ومشاهديه.
إنه إذاً توزيع أدوار، وهو أمر يجرى سنوياً على النحو التالى:
أولاً: شركة إنتاج قوية وفاهمة، تنتج البرنامج، وتتحمل تكاليفه.
ثانياً: قناة ذكية، تذيعه، وتروج له.
ثالثاً: ضيوف براجماتيون، يتنازلون عن جزء من كرامتهم فى مقابل مبالغ مالية كبيرة، ويمثلون دوراً باتوا يتقنونه، ويحصدون بسببه الكثير.
رابعاً: نجم البرنامج الذكى، الذى يعرف أن تعرّضه لقدر كبير من الإهانة والشتائم، وتلقيه عدداً أكبر من الضربات، يعنى أن يحصد رواجاً ومشاهدة.
خامساً: «سوشيال ميديا» تافهة، تشن الحملات على البرنامج، وتتهمه بالتمثيل وإهانة الكرامة الإنسانية، ولا تنسَ أن «تُشَيّر» الحلقات، وتذيل روابطها بالتعليقات.
سادساً: جمهور يمارس قدراً من التواطؤ.. ينتقد البرنامج، ويلعن المشاركين فيه، لكنه يحبه ويحبهم للغاية، حتى إنه لا يفوت حلقة.
هل كتبت مثل ذلك الكلام فى الأعوام السابقة؟ وهل تغير شىء؟