«الوطن» مع الضحايا وأسرهم: المعاناة مستمرة.. والدولة «عاجزة»
علم بوجود دعوات للنزول إلى ميدان التحرير يوم 25 يناير، من خلال متابعته لموقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، لكنه كالكثيرين من أبناء جيله ظل يراقب المشهد من بعيد حتى قرر النزول إلى الميدان يوم جمعة الغضب. جهز نفسه للنزول، طبع قبلة على جبين والدته تاركاً منزله القاطن فى شارع شبرا، وأثناء توجهه إلى الميدان لاحظ حركة غريبة فى نهاية الشارع قرب قسم شرطة شبرا، تجمد فى مكانه بينما ظلت عيناه تراقبان ما يحدث، فأذناه غير قادرتين على سماع دوى الطلقات الصادرة من القسم، وفمه لا يقوى على نطق الكلمات ليستفسر من الموجودين عما يحدث، فالشاب صاحب الـ24 ربيعاً «أصم وأبكم».
بدأ يلوح بيديه لشاب آخر يجاوره، إلا أنه رد عليه مستهزئاً: «انت هتعملى فيها ما بتسمعش»، ما لفت انتباه أحد الموجودين الذى كان يقف على مقربة من الشابين، وجعله يهرول إلى الشاب الأصم موبخاً الشاب المستهزئ قائلاً: «دا أخويا حسين وهو مش بيسمع ولا بيتكلم».
أخذ «محمد» أخاه الصغير محاولاً إبعاده عن الاشتباكات أمام قسم الشرطة، إلا أن «حسين» رفض وأراد أن يرى الأحداث بعينيه، انصاع «محمد» لطلب أخيه الأصغر، شريطة أن يأخذه بعيداً عن القسم ويقفا على الجانب الآخر منه، وهو ما وافق عليه «حسين»، ولكن رصاصات الداخلية كانت أسرع فى اختراق جسد الشاب العشرينى، ليسقط مدرجاً فى دمائه وسط ذهول الموجودين.
حاول «محمد» التواصل مع أخيه محاولاً معرفة مكان إصابته ولكن دون جدوى، فالشاب غير قادر على النطق، أخذ يقلبه يميناً ويساراً، لكن الدماء التى غرقت ملابس الصغير حالت دون معرفة مكان الإصابة، ما جعله يحمل أخاه محاولاً إيجاد مستشفى قريب من مكان الحادث، ليجد أغلب المستشفيات فى المنطقة خاوية تماماً من الأطباء والممرضات.
هرول الشاب يميناً ويساراً بين أروقة جزيرة بدران، الواقعة على بعد أمتار قليلة من قسم شرطة شبرا، إلى أن التقى بطبيب من أهالى المنطقة، تطوع لإسعاف العشرات من المصابين فى هذا اليوم، حسب رواية محمد، الذى نصحه بالتوجه إلى مستشفى الدمرداش لخطورة حالة أخيه الصحية، خاصة أن الرصاصة التى تلقاها أصابت عموده الفقرى.
توجه «محمد» إلى مستشفى «الدمرادش» بشقيقه الذى أودع غرفة العمليات لإجراء عملية استخراج الرصاصة من عموده الفقرى، يتذكر «محمد» هذا اليوم واصفاً إياه بـ«المأساوى»، قائلاً: «أول مرة فى حياتى أشوف هذا العدد من الجثث والمصابين، لدرجة إنى وزوج أختى قعدنا ننقل المصابين جوه المستشفى لحد اليوم التانى، ونسينا إن حسين فى غرفة العمليات».
يصمت «محمد» لوهلة وعلامات الحزن تسيطر على وجهه «تانى يوم دخلنا غرفة العناية المركزة لقينا حسين نايم وسط مجموعة كلهم ماتوا، وساعتها افتكرنا إن حسين مات معاهم، لكن الحمد لله حسين كان لسه فيه الروح».
مشهد «حسين» راقداً فى العناية المركزة وسط مجموعة من القتلى، ما زال المشهد الأكثر إيلاماً بالنسبة لوالدته التى قاطعت ابنها: «مش عارفة أوصف لك قلبى كان بيتقطع إزاى، منظر ابنى وهو راقد بين الحياة والموت، وكمية الشباب اللى زى الورد اللى ماتت فى اليوم دا».
لم تنته معاناة «حسين» بإجراء عملية له فى مستشفى الدمرداش، فالشاب العشرينى الحائز على المركز الأول لمدة 4 سنوات متتالية فى الجرى لمسافة 1500 متر فى اتحاد المعاقين أصيب بشلل رباعى، وهو ما علق عليه أخوه: «حسين بعد ما خرج من غرفة العمليات الدكتور بلغنا إنه بقى عنده شلل رباعى وإن الرصاصة لسه موجودة فى جسمه، ويا ريت محدش يعمل له أشعة رنين لأنها حتمثل خطورة على حياته».
خرج «حسين» من المستشفى ولم تستقر حالته الصحية، وبدأ يعانى من قرحة الفراش، نتيجة تسرب مياه التحاليل إلى جسده دون أن يدرى بها أحد، وهو ما جعل عائلته تتجه به إلى مستشفى القبة العسكرى، ورغم أن المستشفى رفض استقبال حالته بصفته مدنياً، فإن محمداً وعائلته قرروا تركه أمام المستشفى على كرسيه المتحرك أملاً فى أن يرضى المستشفى باستقباله.
يقول «محمد»: «لم يكن أمامنا حل إلا ترك حسين أمام المستشفى، وفور تحركنا من أمام المستشفى اتصلت بنا الإدارة بعدما فشلت فى التواصل مع حسين، وأبلغتنا بقبول حالته وضرورة وجود مرافق له».
طلب الأطباء من أهل «حسين» إجراء أشعة «رنين» لتجرى جراحة له فى عموده الفقرى، وعندما أبلغوا إدارة المستشفى بأن الأشعة ستشكل خطورة على حياته، وفقاً لكلام أطباء مستشفى الدمرداش، كذب أطباء القبة العسكرى الأمر، وأخبروهم أن الأشعة ضرورية لإجراء العملية، ليكتشف الأطباء بعد ذلك بأنه تم نزع فقرتين من فقرات العمود الفقرى لحسين.
أصيب الأهل بحالة من الدهشة بعد معرفتهم أن مستشفى الدمرداش نزع فقرتين لابنهم دون معرفتهم، وجرى تحويل حالة «حسين» إلى مستشفى الحلمية العسكرى ومنه إلى قصر العينى الفرنساوى، الذى رفض إجراء عملية جراحية لحسين نظراً لانتشار مرض قرحة الفراش فى ظهره، ووجوب علاجه قبل إجراء الجراحة.
جميع محاولات علاج قرحة الفراش باءت بالفشل فى مصر حتى فى المركز الطبى العالمى، حسب كلام والدة حسين، إلى أن جرى اختيار «حسين» للسفر إلى ألمانيا لإجراء الجراحة له، وبالفعل سافر الشاب برفقة أخيه الأكبر إبراهيم لمتابعة العلاج فى ألمانيا، وتم الشفاء من قرحة الفراش وأثناء استعداد «حسين» لإجراء العملية فوجئ بأن السفير المصرى يطالبهم بالعودة إلى القاهرة، الأمر الذى رفضه «حسين» وأخوه، معللين ذلك بأنهما هنا من أجل إجراء جراحة فى العمود الفقرى وليس الشفاء من قرحة الفراش، وهدد «حسين» بإشعال النيران فى جسده أمام السفارة حال ترحيله.
تهديدات «حسين» بالانتحار أثارت الرأى العام الألمانى، الأمر الذى وصل إلى الفريق الطبى المصرى الموجود فى إنجلترا، الذى سافر إلى ألمانيا للكشف عليه وإجراء فحوصات له من أجل إجراء الجراحة، وبالفعل مدت فترة العلاج لـ«حسين» وأودع المستشفى لحين إجراء الجراحة، وأثناء ذلك اكتشف الأطباء أن فقرات «حسين» تلتحم بشكل تلقائى، ما جعلهم يوقفون العملية ويستبدلونها بالعلاج الطبيعى لمدة 6 أشهر.
مر الشهر الأول من العلاج الطبيعى وتحسنت حالة «حسين» بشكل جيد، ليفيد الأطباء بأن «حسين» لا يحتاج سوى 3 أشهر فقط ويستطيع المشى بمساعدة «عكازات»، لكن وزارة الصحة المصرية أرسلت خطاباً إلى المستشفى تطالبه بإنهاء فترة علاج الشاب العشرينى لعدم وجود ميزانية لعلاجه، وهو ما استقبله الأطباء بحالة استهجان شديدة، وأرسلوا خطاباً إلى وزارة الصحة يفيد بأن حالة «حسين» الصحية فى تقدم، وأنه لا يحتاج سوى سبعة أسابيع فقط،، وأن الأطباء سيتنازلون عن أتعابهم ولا يريدون سوى تكلفة إقامة «حسين» فى المستشفى، باعتباره مستشفى خاصاً، ولكن الوزارة رفضت وطالبت بعودته.
طلب واحد يريده «حسين» وعائلته، جاء على لسان والدته، وهو عودة ابنها لاستكمال علاجه الطبيعى فى مستشفى العجوزة العسكرى قائلة: «مش عايزين حاجة غير أن حسين يرجع فى مستشفى العجوزى.