كنت من المحظوظين الذين سمحت لهم الظروف بمعرفة الأستاذ محمود السعدنى الذى مرت ذكراه هذا الأسبوع، والذى أتمنى لو أتيحت كل أعماله للناس، وأن يتحمس الأستاذ جرجس شكرى الذى يقدم نموذجاً رفيعاً للوعى والمسئول عن قطاع الثقافة الجماهيرية لنشر أعماله الكاملة.
محمود السعدنى أعتبره واحداً من مؤرخى مصر أو ناس مصر، قدم تاريخ مصر ولكن على طريقته.. «السعدانية» الخالصة.. و«السعدانية» نسبة إلى عمنا محمود السعدنى، لا بد أن تكون مصرية خالصة، يعنى شبهه.. كأنها قرص طعمية، محرفش وسخن، مطعم بالسمسم، ومحشور فى نصف رغيف بلدى «ملدن»، وملبد بالطماطم والجرجير والبصل.. حاجة شهية.. طازجة.. تاكلها على عربة يد صنايعى، حريف، تأتى له الزبائن من كل فج.. «السعدنى» قلم لا يحسب إلا قناعاته.. ولا يكتب إلا ما يستقر فى دواخله وبالطريقة التى لا يستطيعها غيره.. «السعدنى» «حالة مصرية»، لا يمكن إلا أن تكون مصرية.. حالة الشارع والحارة والزقاق، والثنايا المعبقة من تراكم طويل.. غويط، لا يمكن تقليده ولا تزييفه.. هو الكاتب.. الساخر.. الحكاء.. المثقف.. ابن البلد.. الفنان.. اللماح.. العصىّ على التطويع أو الانسياق مهما أحب أو انتسب.. عرف السجن مرات، حتى أيام عبدالناصر الذى كان الأقرب إليه روحاً ومعتقداً.. دخل السجن لحكاية غريبة.. فى الفترة التى بدأ عبدالناصر يغضب فيها من الشيوعيين، كان «السعدنى» فى سوريا يلتقى أصدقاء منهم شيوعيون.. طلب أحدهم، خالد بكداش، من السعدنى أن يحمل معه رسالة إلى عبدالناصر.. ولم يكن السعدنى يعرف مضمون الرسالة، وسلمها إلى عبدالناصر، وعندما تم اعتقال الشيوعيين الكتاب، كان السعدنى واحداً منهم.. السعدنى لم يكن من الممكن إلا أن يكون كاتباً صحفياً، ساخراً.. «ومصرياً».. جاب سلم الكتابة من أول «بسطة» كما روى عنه «طوغان»، وكما كتب هو بنفسه فى مذكراته «الولد الشقى».. هو فعلاً الولد الشقى، وأضيف: الذكى، اللماح، المعجون بمية الطرشى، البلدى.. القادر على صك المصطلح الذى يلقيك على ظهرك من الضحك، لأنه يدغم ويختصر ويكشف عن الجوهر الذى لا يمكن أن يختزل.. رفده السادات لما كان السادات يترأس جريدة الجمهورية، بسبب مقال للسعدنى عن فريد الأطرش، ولما تولى رئاسة الجمهورية، لم يكتف فقط برفده، لكنه قرر ألا يذكر اسمه فى أى جورنال أو مجلة مصرية ولا حتى فى صفحة الوفيات! والسبب أنه تنامى إلى أسماع السادات بعض من سخرية السعدنى عنه وكما قال السادات وعن «أهل بيتى»..
لم يكن «السعدنى» بقادر على العيش بعيداً، ليس عن مصر، بل عن الجيزة التى كان يراها كل الدنيا، ومع ذلك أمضى نصف حياته مدفوعاً للخروج من مصر كلها، سواحاً فى بلاد الله، لأسباب كانت كلها سياسية.. شتاته الأكبر كان فى عهد السادات.. لف العالم العربى فى محاولة لأن يكون نفسه فى غير مكان نفسه والنتيجة أنه جرب فى ثلاثة أرباع البلاد العربية وفشل واضطر أن يسافر إلى لندن ليصدر مجلة حملت اسم «٢٣ يوليو».. أيامها، عام ١٩٨١ كنا نزور لندن.. وذهبنا إليه.. قمت إلى المطبخ أعد أكواب الشاى لجلسة عامرة، وجدت الشاى والسكر والأكواب وإلى الطرف حزمتين من الملوخية الخضراء، مغسولة ومفرودة الأعواد على أطراف رخامة المطبخ فى انتظار «التقطيف».. خرجت قبل عمايل الشاى إلى القعدة التى لم يكن من الممكن إلا أن يسودها صوت السعدنى.. حاولت السؤال.. رفعت صوتى كى أتمكن من أن أفرض أن يسمعنى «إيه اللى فى المطبخ ده؟ دى ملوخية بجد؟!» قال: آه، واللحمة «ملبسة» عندك فى التلاجة! خد بالك من وصف اللحمة «الملبسة»، وهو الذى يصف المصريون به اللحمة الحمراء التى يتخللها الدهن والدسم.. عرفت بعدها أن السعدنى يتسوق فى لندن كما فى مصر ، وأنه لم يتخلَّ لا عن طشة الملوخية ولا طاجن الكوارع ولا الطعمية، وأن مصراً صغيرة يحملها، أينما رحل.. لم تكن هذه المساحة للكتابة عن شخص السعدنى الذى كان من حظى أن عرفته، فاستكملت عناصر «مصريتى»، وليس فى الأمر مبالغة. للسعدنى أربعة وثلاثون كتاباً محورها «زوايا مصرية» أو ثنايا مصرية، من كتابه عن المقرئين والمضحكين المصريين ورحلاته وأيام سجنه، وبما فيها مذكراته المعنونة بالولد الشقى، يكتب السعدنى تاريخ مصر على طريقته.. دون أن يتخلى عن النكهة السعدانية ولا عن الرؤية السعدانية لمجريات التاريخ، فالتاريخ عنده تاريخ الناس وليس الحكام، حتى وإن تمت كتابته يغير ذلك.. «السعدانية» حالة حياة، أهم معالمها «الوجد» بمصر.. الغرام المتيم حتى لكأنه بعض من مصر.. وقد كان كذلك.