فى الأسبوع الماضى شاهدت حلقة مميزة من حلقات برنامج «رأى عام»، الذى يقدمه الإعلامى البارع عمرو عبدالحميد، على فضائية «تن»، وهى حلقة استضاف خلالها الممثلة القديرة سميرة عبدالعزيز، التى تحدثت بطلاقة وصراحة عن التمثيل والمسرح وقضايا فنية أخرى.
لقد بدا أن الفنانة القديرة تشعر بمرارة جراء استفحال بعض أنماط الأداء الفنى الحادة والمزعجة من وجهة نظرها، والتى لا تعكس «القيم الجوهرية التى يقوم عليها المجتمع فى مصر ويحترمها ويرجو لها الاستدامة».
وفى المقابل، فقد قام «عبدالحميد» بدوره جيداً، فلم يترك الأحكام الحاسمة التى أطلقتها الفنانة القديرة تمر من دون أن يخضعها للنقاش والمراجعة، وكأنه يريد أن يتأكد من إتاحة الفرصة الكاملة لكل صاحب رأى فيما تقوله ضيفته لكى يعبر عن رأيه، وصولاً إلى محاولة إلقاء الضوء الكاشف على تلك المساحة التى طالما شهدت جدلاً وانقساماً، أى المساحة التى تتعلق بدور الفن، ورسالته المفترضة، وما إذا كان يجب أن يعكس الواقع، أو ما نريد أن نجد عليه الواقع.
ترى «عبدالعزيز» أن الإفراط فى تقديم الأنماط الحادة والشاذة عبر شاشة السينما أو التليفزيون يؤدى إلى مشكلتين؛ أولاهما تحدث عندما يتأثر الأطفال والمراهقون بتلك المشاهد، فتتبدل أحوالهم ويتغير سلوكهم لمجاراتها، ما يحوّل المجتمع مع الوقت إلى بؤرة للعنف والبلطجة والجريمة، أما ثانيتهما فتتصل بالصورة التى تُصدّر عن المجتمع المصرى للخارج؛ إذ يعتقد من لا يعرف مصر والمصريين، ويكتفى فقط بمشاهدة مثل تلك الأعمال، أن البلد تحوّل إلى غابة، وشوارعنا لا تخلو من «رجال عراة يمارسون البلطجة وضرب الآخرين بالمطاوى».
يُعد ذلك منطقاً مفهوماً، خصوصاً أن التداعيات السلبية لتسيد مثل تلك المشاهد والموضوعات شاشات العرض السينمائى والتليفزيونى بدت واضحة وملموسة، وهو أمر يدفعنا إلى ضرورة الإلحاح على تعزيز آليات الإنتاج لتكون أكثر رشداً وأقل ميلاً لمجاراة الاعتبارات التجارية.
ورغم ضرورة احترام فكرة حرية الإبداع، وعدم الجور على حق المبدعين فى أن يعكسوا الواقع بالشكل الذى يلبى التزاماتهم الفنية، فإنه من الضرورى أيضاً الحرص على التوازن بين هذين الاعتبارين من جانب، واعتبارات دور الفن فى التنشئة وصيانة القيم الجوهرية وتعزيز صورة الشخصية الوطنية من جانب آخر.
والواقع أن ذلك يمكن أن يتحقق من دون غلق أو منع عرض أو مصادرة أو ملاحقة قضائية من أى نوع، بل إن هذا التوازن يمكن إدراكه ببساطة عبر حصص التوعية المشابهة لما فعلته السيدة «عبدالعزيز»، ومن خلال الإنتاج الموازى الذى يعكس أفكاراً أكثر نضجاً وأقل تجاوباً مع اعتبارات السوق، وهو أمر يمكن أن يتحقق عبر إدارة المجال الفنى إدارة مدروسة انطلاقاً من أهداف محددة سلفاً.
ثمة مسألة أخرى فجرها هذا الحوار المشوق؛ إذ قالت الضيفة إنها ترفض أن تلعب دور أم النجم محمد رمضان فى عمل تليفزيونى، انطلاقاً من كونها لعبت من قبل أدوار أمهات الأئمة الأربعة، وعظماء آخرين من بينهم السيدة أم كلثوم، على سبيل المثال، فكيف يتأتى لها أن تلعب دور «أم بلطجى»؟
يأخذنا هذا الرد الحاسم والقاطع إلى مسألة فنية أخرى لطالما فجرت الجدل، وهى مسألة تعانى منها الساحة الفنية المصرية راهناً معاناة شديدة، ويمكن تسميتها ببساطة «متلازمة الخلط بين الممثل والدور الذى يلعبه».
لسبب أو لآخر، فإن الساحة الفنية فى مصر ترتهن منذ عقود لخلل عجيب يتم الربط بسببه بين شخصية الممثل من جانب والشخصية التى يقدمها من جانب آخر، وهو أمر لا يقتصر على تصورات الجمهور البسيط، ولكنه للأسف يتسع ليشمل بعض أطراف الصناعة، ويستفحل حين يصل إلى الممثل نفسه، ويصبح هذا الربط والتصور جزءاً من تصوره لذاته.
فهل تعتقد السيدة «عبدالعزيز» مثلاً أن قيامها بأدوار أمهات الأئمة الأربعة على شاشة التليفزيون ينزلها منزلة إنسانية ودينية وأخلاقية معينة، بشكل يلزمها بعدم القيام بأدوار أخرى «أقل شأناً»، ويغير تقييمها لما يقدمه بعض زملائها من أدوار؟
وهل كان محمد رمضان يقصد أن يجعل من أسماء مسلسلاته الأخيرة «الأسطورة» و«زلزال» و«البرنس» لكى يكرّس بتلك الأسماء ما يعتقد أنه حقه كـ«نمبر وان»، ومكانته التى يقاتل من أجل أن يبرز علوها، مستخدماً جميع أنواع الشطط؟
وهل قصد عادل إمام اختيار اسم «الزعيم» لإحدى مسرحياته لكى يبقى على اللقب ويظل جزءاً من شخصيته العامة والفنية؟ وهل راح يلعب فى سيناريوهات أعماله لكى يضمن أن تبقى شخصيته «محركة للأحداث»، ومنتصرة لا مهزومة؟
وهل لمثل هذا الخلط يرفض بعض الممثلين الكبار لعب أدوار «مثليين»، أو أشرار، أو فتيات ليل، أو راقصات، خوفاً من أن يتم إلصاق تلك «الاتهامات» بهم، وأن يتغير إدراك الجمهور لهم؛ لأن خلطاً يحدث بين الممثل وبين الدور الذى يلعبه؟
فى كتابه المهم «دراسات كامبردج فى المسرح» ينقل كريستوفر بالم عن الكاتب الأسكتلندى الشهير جيمس بوزويل شرحه لهذه الجدلية على النحو التالى: «إذا سُمح لى بأن أشرح طبيعة تلك القوة الغامضة التى يتقمص بموجبها الممثل الشخصية التى يمثلها، فإن فكرتى هى أنه لا بد أن يكون لديه شعور مزدوج؛ إذ يجب عليه أن يتقمص الشخصية التى يلعبها بدرجة قوية، بينما عليه فى الوقت نفسه أن يحافظ على وعيه بشخصيته الأصلية».
من المهم جداً أن يدرك هؤلاء الذين لعبوا أدوار ملوك وعظماء أنهم ليسوا بالضرورة كذلك، وأن يدرك الذين لعبوا أدوار الأشرار و«المثليين» والبلطجية أنهم ليسوا بالضرورة كذلك، وأن يدرك من لعب دور الشهيد البطل أنه ليس بالضرورة كذلك، وأن محك التقييم المنطقى الوحيد فيما يقدمه هؤلاء يتعلق بالسؤال: إلى أى حد تم تقمص الشخصية بنجاح؟ وإلى أى حد تم الخروج منها بعد انتهاء الدور؟
ما يُقدم عبر شاشات العرض التليفزيونية والسينمائية فى بلادنا يجب أن يتطور ليوازن بين مقتضيات التعبير عن الواقع ومتطلبات دور الإبداع فى تحقيق المصالح العليا، من دون أى جور على حرية التعبير. وما يقدمه الممثل عبر العمل الدرامى ليس شخصيته الحقيقية، وعدم قدرته على إدراك ذلك خلل كبير.