فى الأسابيع الأخيرة انشغلت قطاعات كبيرة من جمهور وسائل الإعلام بمتابعة دراما رمضان، ومع ذلك، فقد كانت العيون معلقة والآذان منصتة لبرامج «التوك شو» المسائية، التى سيتعرف الجمهور من خلالها على آخر تطورات وباء «كورونا»، وتوجيهات الدولة، وآراء المتخصصين للتعامل معه ومع ما يجلبه من تداعيات مؤثرة.
يلعب مقدمو برامج «التوك شو» الرئيسة أدواراً مهمة فى مختلف الأوقات، خاصة إذا عرفنا أن قطاعاً من الجمهور يتزود بقدر كبير من المعلومات والتحليلات بشأن القضايا الجارية من خلال ما يصدر عنهم. ولا يقتصر جمهور هذه البرامج على طبقة معينة أو مستوى ثقافى ودرجة وعى بعينها، إذ أشارت دراسات كثيرة إلى اتساع أثر المحتوى المقدم عبر هذه البرامج وتجاوزه للطبقات الاجتماعية، رغم أننا نعرف أن هذا التأثير يتزايد بقوة عندما يستهدف جمهوراً أمياً أو محدود التعليم أو لا يتعرض لمصادر معلومات أخرى. لكن المتابعة الفاحصة لما يقدم عبر هذه البرامج فى الآونة الأخيرة خصوصاً يكشف عن تضارب كبير فى المعلومات والتحليلات والآراء المقدمة عبرها، وهو تضارب يعزز حالة الغموض، ويزيد درجة اللا يقين، ويفقد الجمهور الثقة، وينزع منه القدرة على اتخاذ القرارات السليمة.
ثمة خللان هيكليان كبيران يعتريان هذه الممارسة؛ أولهما يتلخص فى أن مقدم البرنامج يعمل بصلاحيات مطلقة، فلا يوجد رقيب على ما يقدمه إلا نفسه كما هو معلن، وثانيهما أنه لا يلجأ عادة فى عرضه للآراء والتقييمات لمصادر أو أدلة، مكتفياً فى هذا الصدد فقط بالاعتماد على نفسه، فضلاً عن أنه طبعاً يقدم جل آرائه وتقييماته باعتبارها حقائق. وفى هذا الصدد فقد أمكن رصد الكثير من التضارب فيما يصدر عن بعض هؤلاء النجوم، سواء فى تقييم أساليب مواجهة أزمة «كورونا»، أو فى تقدير مدى الوعى الشعبى فى مواجهتها، أو فى ملفات أخرى كثيرة سياسية ورياضية وفنية. ويمكن القول إنه أمكن رصد تقديم معلومات وآراء عبر بعض هؤلاء النجوم ثم نقضها وتسفيهها وتبنى عكسها تماماً فى يوم تال أو بعد أيام قليلة. يجرى هذا من دون اعتذار، أو تسويغ، أو مراجعة، أو مساءلة، وهو أمر يفاقم خللاً كبيراً ومستداماً فى صناعة الإعلام وفى آليات مخاطبة الرأى العام.
فى شريطه السينمائى اللطيف «السفارة فى العمارة»، يجلس عادل إمام مع أصدقائه فى عوامة على النيل، يدخنون الحشيش، ويشاهدون حلقة من برنامج مناظرات تليفزيونى شهير على إحدى الفضائيات، فيما تتفاعل قضية الفيلم الرئيسة، التى تدور حول إمكانية «التطبيع» و«التعايش» مع الإسرائيليين فى مصر. يلعب عادل إمام فى الفيلم شخصية «المهندس شريف»، الذى لا يحفل بالشئون العامة على الإطلاق، وتتلخص اهتماماته كلها فى مسائل شخصية ذات طابع حسى فى الغالب، يتفرغ لها بجوارحه كلها، عازفاً عن الانخراط أو التفكير فى أى من القضايا ذات الطابع السياسى أو الاجتماعى، ما دامت لا تمسه مساً مباشراً.
«المهندس شريف»، الذى رفع للتو قضية ضد السفارة الإسرائيلية، لإجبارها على التخلى عن الشقة المجاورة لشقته، يسحب أنفاساً عميقة من أرجيلته، فيما يتحدث ضيف البرنامج الأول، مندداً بقوة بالسياسات الداعمة لعملية التطبيع، ومذكراً بحرقة، بـ«الجرائم المتكررة التى ارتكبها، ويرتكبها الإسرائيليون فى حق الشعوب العربية»، وهو ما يعلّق عليه بطل الفيلم بهدوء شديد وثقة واطمئنان: «الراجل دا بيتكلم كلام زى الفل». ينتقل الحديث إلى الضيف المناظر، الذى يقول بهدوء وبساطة: «على فكرة يا جماعة ليست هناك حالة حرب الآن بيننا وبين إسرائيل»، وهو القول الذى علّق عليه «المهندس شريف» أيضاً بقوله: «الراجل ده كمان بيتكلم كلام زى الفل». والواقع أن «المهندس شريف»، ربما عن غير قصد، قدّم لنا المثل الأوضح على إحدى التقنيات التى يفرزها الاستخدام المُسىء للخطابة والقدرة الإعلامية فى عصرنا؛ وهى تقنية «التفكير المزدوج» Double Think، إذ يصدّق المرء وجهتى نظر متناقضتين حول أمر واحد، ويصبح غير قادر على فرز الحجج واختيار الأصلح. وقد يصبح منقاداً مستسلماً لأى حجة، أو شبه حجة، مصوغة بعناية، مهما كانت متناقضة مع واقع الحال، أو مع حجج أخرى كثيرة يؤمن بها أيضاً، وهو الأمر الذى قد يجعله يقبل بالحجج المتناقضة، ولا يجد بأساً فى تبنيها كلها. وكما قال جورج أورويل، فإن «التفكير المزدوج» يسلب الإنسان ملكة التفكير، ويفقده القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، ويحوله كائناً منقاداً متذبذباً بلا هوية واضحة أو انتماء لنسق فكرى محدد، يمكن أن يهدى صاحبه فى حالات الغموض أو الخطر أو عند الرغبة فى تكوين الفكرة أو اتخاذ القرار.
بعض هؤلاء النجوم الذين يتصدرون ساحة «التوك شو» فى مصر يتحدثون عبر برامجهم الشهيرة على مدى الساعات والدقائق، يتناقضون ويتصارعون ويختلفون أو يتفقون، ويصوغون حججاً متضاربة متناطحة على الدوام، فى أمور ثانوية أو جوهرية وشديدة الخطورة، والبسطاء من الناس يقتاتون على هذا «التفكير المزدوج»، ثم ما يلبثون أن يتحولوا أشخاصاً مسحوقين، يعتقدون بصحة كل ما يسمعون أو يقرأون، ما دام صادراً عن هذا النجم المشهور، ومهما خالف هذا قواعد المنطق، ومهما تناقض مع ما تقول به مؤسسات أخرى أكثر تخصصاً وأوثق صلةً.
وعلى عكس ما يخشى البعض من علماء الاجتماع والسياسة، فإن أكثر الآثار المترتبة على التعرض لرسائل إعلامية غير مسئولة ضرراً لا يتعلق بنواحٍ أخلاقية أو اقتصادية أو سياسية محضة فقط، ولكنه على الأرجح يسبب أثراً أكثر قسوة؛ إذ يفتك بروح الإنسان ذاتها وقدرته على التمييز والفرز، التى تميزه عن غيره من الكائنات الأدنى، ويحوله ببساطة جسداً بلا عقل يميز أو روح ترشد.. وأذناً تسمع دون قلب يعى، ولساناً يعلق دائماً: «ده كلام زى الفل».
نحن لا نريد أن نبعد هؤلاء النجوم، ولا نريد أن نقاطع نجاحهم المشهود فى الانتشار كما يبدو ظاهراً، لكن فقط نريد منهم أن يحترموا بعض أهم أساسيات هذه الصناعة؛ ومنها فصل الرأى عن الخبر، وإسناد المعلومات إلى مصادر ذات صلة، وعدم تغيير الموقف والرأى كل ساعة.