هذا سؤال كبير تتعدد حوله الإجابات وتتفرع عنه مدارس علمية.. وفى هذا السياق صار هناك ما يؤخذ به من أنواع من الكتابات والمعالجات التى تنتمى إلى حقول فنية ومعرفية لا تندرج تحت التخصص التاريخى المحض، ولكن بها ما يمكن أن يتماس والتاريخ.. لكاتبنا الكبير محمود السعدنى أربعة وثلاثين كتاباً تقريباً، بها رؤى تتمحور حول مصر، بدءاً من مقرئيها إلى مقاهيها وممثليها ومُضحكيها، حتى يصل إلى تعامله مباشرة مع تاريخ مصر فى كتابه: «مصر من تانى»، مبلوراً إجابته عن السؤال: «مَن يكتب التاريخ»؟
هضم «السعدنى» تاريخ مصر، وأعاد اجتراره، مستخلصاً العبر، والزبد والخلاصة، وعلى طريقته الساخرة يوظف فى المفتتح العلاقة بين معنيين: «طوبى»، و«الطوبة».. يقول إن أكبر مآسى تاريخنا نحن، أن كل خليفة «حى»، هو مصدر الحكمة وينبوع المعرفة، وهو يظل كذلك حتى يموت! هو نموذج الكمال حتى يواريه الثرى، فإذا مات كان منبع الجهل ومصدر الظلم والنموذج الأكبر للفساد! والسبب أن نمط الحكم العربى يجعل من الخليفة أو الوالى أو السلطان «معصوماً من الخطأ» وطول ما الخليفة حى، تدور الأسطوانة على الوجه الذى يسبّح بميزاته وعبقريته، فإذا اختفى انقلبت الأسطوانة على الوجه المعاكس.. والمسافة بين الوجهين لا تقل عن السماء والأرض. يقول: «لذا فكرنا ولله الحمد، أن نلقى نظرة على تاريخ مصر من تانى.. نظرة رجل من الشارع، غير متخصص وغير كمسارى وعلى غير علاقة رسمية بالتاريخ، وسنعيد النظر، بعون الله، فى التاريخ كله، بعد أن مات الخلفاء والسلاطين والأمراء والكمسارية والبصاصون، وسنحاول أن نجرد التاريخ من أبهة الحكم وأجهزة المخابرات والمباحث، وهو على كل حال اجتهاد من جانبنا، إن أصابنا كان لنا أجر المجتهدين وإن أخطأنا كان لنا أجر المجتهدين المخطئين.. وسيكون الفارق بيننا وبين المؤرخين الكمسارية، أن مصر فى نظر المحترفين سلسلة طويلة من الأمراء والملوك والسلاطين، ولكنها فى نظر العبد لله، مجموعة متصلة من الأجيال والصيّاع وأصحاب الحاجات والمتشردين.. مصر فى زمن السلاطين لم تكن «قلاوون» أو «قطز» أو «عز الدين أيبك» أو التركمانى وعلى بك الكبير، لكنها كانت «الزعر» والحرافيش «والحشاشين»، ومصر أيام عبدالناصر لم تكن هى الرئيس ونوابه ومدير المخابرات ورئيس الاتحاد الاشتراكى، لكنها كانت العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية والجنود والمثقفين. مصر أيام السادات لم تكن الرئيس وزعماء المنابر أو تجار الشنطة وأصحاب بوتيكات شارع الشواربى ورواد الحانات، ولكنها أيضاً ملايين الشحاذين والمتسولين والذين يعانون المرض وخيبة الأمل والجوع.. إنه تاريخ الأدب المصرى فى الواقع وعلى المكشوف وعلى عينك يا تاجر ونرجو ألا يغضب منا أحد، فنحن لا نقصد إلا وجه الحقيقة ولا نهدف إلا تعرية الواقع ولا نرجو إلا عفو الجبار.. فالتاريخ ليس سوى أخبار قديمة، قد تتطابق أحياناً مع ما يجرى اليوم من أحداث أو قد تكون هى السبب فيما يجرى اليوم، من أمور وهذا هو الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان على رأى أحمد بهاء الدين، فالإنسان حيوان له تاريخ ولكى يكون الإنسان إنساناً بجد، لا بد أن يعرف تاريخه بدون تزويق ولا رتوش! ولعل ذلك هو ما ما جعل منا نحن العرب، أمة أقل مرتبة من بعض الناس.. تاريخ العرب فى مجمله يقف عند أن كل السلاطين كانوا فى غاية العدل والأدب وأن كل الحكام على حق وكل الشعب فى منتهى الوقاحة والإجرام.. ثم يختتم المفتتح: نسأل المولى العزيز التوفيق للوصول إلى الحقيقة للكشف عن المستور، وأن نكون عند حسن الظن وعلى المستوى العمل الكبير ونطلب من الله أن يبعدنا عن أيدى العسس، وأن يخفينا عن أعين البصاصين، وأن يُحيينا صُياعاً ويميتنا صياعاً ويحشرنا يوم القيامة فى زمرة الذين هم على باب الكريم: «طوبى» للصيّاع وطوبى للمتشردين و«طوبة» للبصاصين والمخبرين! من أمتع أجزاء هذا العمل الفنى، حيلة السعدنى الذكية للإجابة عن أسئلة افتراضية، على شاكلة: ماذا لو..؟ ماذا لو هُزم الحلفاء.. ماذا لو أن على بك الكبير استمر فى الحكم..؟
وحتى لو لم يعترف التاريخ بـ«ماذا لو» فى التاريخ، فإن «السعدنى»، قد توضأ وعاهد الله ألا يكتب غير ما يراه ويحسه ورزقه على الله.