عشرات الرسائل فى عمل فنى واحد وعظيم.. وصلت بطريقها الصحيح إلى أصحابها فى الداخل والخارج على السواء.. بدأت من اعتبار الشهيد أحمد منسى الامتداد الطبيعى لأسطورة الجيش العظيم الشهيد إبراهيم الرفاعى، يدافع عن الأرض نفسها التى قاتل فوق ترابها الرفاعى والذين معه ضد نفس العدو الذى كان ظاهراً مباشراً وقتها، ووفقاً لشكل الصراعات وقتها ووفقاً لشكل الصراعات حالياً أسند المهمة لوكلاء إقليميين ومحليين.. بين ممول وبلطجى ومجموعات من الحثالة البشرية.. الممول خاضع خانع لا حول له ولا قوة فى سياساته الخارجية ولا فى ثروته الهائلة التى هى ثروة شعبنا الشقيق المغلوب على أمره.. والبلطجى العثمانى الذى يداعب أوهامه سلطان زائل، وبالمداعبة يتم التوظيف لتحقيق أهداف أكبر منه ومن أوهامه ومن خياله كله. ومجموعات من الحثالة البشرية عرفتها بلادنا قبل تسعين عاماً انتظمت تحت اسم «الإخوان» ولم تترك شيئاً يعرقل تقدم أمتنا وشعبنا إلا وفعلته.. تغتصب فلسطين وتبدأ هجرة اليهود إلى هناك من كل أنحاء العالم، فتجدهم يفجرون حارة اليهود ومحلاتهم وشركاتهم، فتبدأ هجرتهم من مصر إلى إسرائيل! تبدأ مصر إجراءاتها فى العدالة الاجتماعية وانتشال الملايين من الحفاء والفقر بعد عشرات السنين من الحياة غير الآدمية تجدهم ضد إجراءات الثورة وضد الإصلاح الزراعى! وهكذا فعلوا ونحن نبنى السد العالى ونهضة الستينيات الصناعية وصولاً إلى التربص بمصر حالياً وهى تعوض تراجع نصف قرن تقريباً ورئيسها يبنيها من جديد من الطرق إلى المدن إلى الصوب إلى التسليح إلى الضبعة النووية إلى محطات الطاقة وغيرها وغيرها!
تبدو علاقة السطور السابقة بالمسلسل فى جرعات الشرح التى جاءت على لسان منسى وآخرين ممن أدوا أدوار ضباط بالجيش العظيم.. وجاءت مبسطة مباشرة واضحة لا تخطئها أذن ولا يخطئها عقل.. حتى الدروس الاستراتيجية المهمة بسطت إلى أقصى حد لتصل للمواطن البسيط، وهكذا جاءت الدروس التاريخية والجغرافية والفقهية!
«الاختيار» قصة المسارات المختلفة وحكاية الانفصال الحتمى بين الحق والباطل.. بين تباعد طريق الوطن عن طريق الأعداء.. بين طريق الوطنية وطريق الخيانة.. هنا المسلسل حيث الحرب على الإرهاب ممتدة إلى خارج الحدود ومتشابكة فى مؤامرة واحدة على المنطقة كلها ومصر فى القلب منها.. هنا المسلسل حيث الإرهاب تحت حماية أطراف دولية فى سوريا أشار إليها فى لقطة ذكية بتنقل أبوبكر البغدادى تحت حماية طائرات «إف 16» التى لا تمتلكها فى حالة سوريا إلا تركيا وأمريكا وإسرائيل، وهناك وتحت هذه الحماية يتجمع الإرهابيون لينطلقوا إلى تخريب وإسقاط بلادنا العربية.. وإن كان التحديد فى حالة ليبيا ولأسباب عديدة أقل وضوحاً من حالة سوريا!
يحمل المسلسل عنوان «الاختيار» ويروى قصة الشهيد أحمد منسى فى الارتباك الكبير الذى شهدته البلاد بعد 2011 وكان طبيعياً أن يروى أثناء ذلك قصة شهداء مصر وأبطالها فى الفترة نفسها، ومن هنا كان من الصعب شرح وفضح النشأة الحقيقية للإرهاب وتمويله وتسليحه، وكيف تصل الأموال من الخارج بحيل مختلفة وكيف وأين يتدرب الإرهابيون وكيفية عمل الجماعات بأسماء وعناوين مختلفة كجناح عسكرى لـ«الإخوان» فى لعبة توزيع الأدوار والتوظيف المباشر، إذ يحتاج ذلك إما إلى عمل مستقل أو إلى عمل طويل من عدة أجزاء.. لكن تناول «الاختيار» كيف يؤدى الجهل بالدين والانحراف بتفسيره إلى سقوط الكثيرين فى فخ الإرهاب، ويتحولون فى لحظة شيطانية فاصلة من خدمة الوطن إلى خدم فى يد أعدائه!
نجح المؤلف باهر دويدار فى الإلمام بخيوط الموضوع.. وأجبرته القصة الحقيقية على البناء الرأسى للعمل دون أى مساحات أفقية إلا فى حالة الربط بين المقاتل الصعيدى السابق وشقيقه المقاتل الحالى الذى يصبح شهيداً برصاص غادر من إخوانى أطاحت ثورة يوليو بأحلامه بينما الأسرة بالأرض التى تمتلكها لم تسلم من تآمر فاسدين متنفذين على حس عهود سابقة تمتد المعركة معهم ومع فسادهم حتى اليوم وستستمر!
لذلك لم يخطف انتباهنا من الخط الرئيسى للعمل أى قصص فرعية أخرى.. ولظروف ترتبط بمستوى الوعى فى مصر كان التركيز على محاولة التفسير الصحيح للدين متوازية مع جرعات الانتماء الوطنى.. ولكن بما أثر على إبراز التركيب الطبيعى لأبناء الجيش العظيم الأسوياء -وكل أبناء جيشنا أسوياء- فى اهتمامهم مثلاً بالموسيقى والغناء والسينما!
فى المقابل قدم العمل الإرهابيين على أصدق ما يكون.. المشاكل والعقد النفسية ذات الجذور وتأثيرها على السلوك العنيف وحجم الكراهية للآخرين عند أول فرصة لتدفقهما.. الانتهازية التى لا مثيل لها حتى فى ظل القتال والمعارك والتآمر.. إبراز الاهتمام بالشهوات من النساء والأموال وحب القيادة والنفوذ.. الجبن والخوف الموجود فى أعماق الأعماق.. حتى فى لحظة القبض على عشماوى من الأشقاء الليبيين وعدم القدرة على اتخاذ قرار تفجير الحزام الناسف!
تمكن المخرج بيتر ميمى من الاختيار الأصح لأبطال العمل كما فعل فى «كلبش»، ليس فقط للتشابه بين الممثلين والشخصيات الحقيقية لكن أيضاً القدرة على إقناعنا حتى صدقنا أن أمامنا فعلاً سالم لافى والإرهابى عماد وغيرهما ثم فى النجاح الكبير فى اختيار أماكن التصوير والدقة فى اللهجة من لهجة بدو سيناء إلى أهل الصعيد إلى الأشقاء فى سوريا وليبيا، ولم تتسبب الرغبة فى إنجاز العمل فى التسرع فى الانتهاء منه إنما كانت الدقة والإجادة عنوان العمل كله!
أبطال العمل يستحقون مقالاً مستقلاً.. ويحتاج «الاختيار» إلى أكثر من مقال، ولكن تبقى الحقيقة المؤكدة فى المسلسل وفى الواقع على السواء.. سقوط جمهورية أوهام ستان.. فلا مصر سقطت ولن تسقط.. ولا مصر ضعفت ولن تضعف.. ولا تنمية سيناء توقفت ولن تتوقف.. ولا الإرهاب انتصر ولن ينتصر.. ولا المشروع الصهيونى الذى يفوض وكلاء الشر نجح ولن ينجح..
سقطت جمهوريته.. أوهامستان!