عندما غنت أم كلثوم كلمات مأمون الشناوى وقالت (بعيد عنك حياتى عذاب) أطربتنا وأسعدتنا ومست قلوبنا وأنعشتها، وداعبت قصصنا الصغيرة التى أخفيناها وسط الأوراق الخاصة بعيداً عن المتلصصين والباحثين عن أخبار الفراق والبدايات والنهايات، وجعلتنا نحلق فى السماء فى رحلات يومية للقمر مع الكلمات الساحرة والصوت البديع. وظللنا حتى الآن نرددها عند الإحساس بالشجن والحنين ونغزات القلب والفراق أو الخوف منه أو التهديد به أو توقعه والإحساس باقترابه وأنه على وشك الحدوث من الحبيب، وعاشت تلك الأغنية وبقيت حتى الآن الترجمة الدقيقة الواضحة الصريحة لعذاب القلوب ووجعها وبكائها وأنينها ودعائها بعودة من ابتعد وهجر لأنه الحياة بجميع صورها. وبقيت كلمة (البعاد) وما زالت وستظل أوراقها فى قاموس المعانى المفسر لكلمات العربية بالعربية تؤكد أن المقصود بها بعد المسافة وبعد الشخص عن صديقه وتنحيه وأنها عكس كلمة تقرب، وأنه عندما نقول تباعدت المسافات فمعناها الوحيد امتدت وطالت ونأت. أما إذا استخدمناها كظرف زمان فالمعنى الوحيد هو التأخر، وإذا قلنا تباعد القوم فقد نأوا عن بعضهم وأخذوا يتباعدون بعد أن كانوا يلتقون كل يوم، أما إذا تباعد الصديقان فالمقصود الانفصال أو الافتراق. وفى الحديث عن التباعد الاجتماعى يكون المعنى درجات متفاوتة للبعد أو الانفصال أو القرب أو التحرك الاجتماعى الذى يحدث أو يسمح به داخل المجتمع بين الأسر أو الطبقات الاجتماعية المختلفة. وحتى نصل لما نعيشه حالياً، يكفى أن نعرف أن هناك فى القانون المصرى عقوبة جنائية سياسية تقضى بإخراج المحكوم عليه من البلاد تسمى (الإبعاد) وهى من أشد العقوبات قسوة وألماً. فكيف بعد كل ما سبق يمكن أن أستوعب أو أستسيغ أو أتفهم أو أشعر أنها صادقة، تلك الجملة التى تتردد مئات المرات فى وسائل الإعلام وتضاء وتتلون وتتراقص بألوان فسفورية صاخبة على واجهات الإعلانات فى الشوارع والميادين، ويرددها نجوم الفن والمجتمع على شاشات التليفزيون وكأنهم يطلبون منا أن نكررها من خلفهم كما لو كانت درساً مهماً أو نشيداً أو قسماً بالولاء والانتماء للوطن، ولا بد أن نحفظه عن ظهر قلب. كيف يمكن أن يكون فى التباعد حياة وقد حُرم الطفل الرضيع من رائحة أنفاس أمه وملمس وجهها، وما هى تلك الحياة الخالية من أحضان الأحبة والأبناء والأحفاد ومصافحة الأصدقاء والاحتفاظ بكف الحبيب بين يديك وعناق الغائب عن العيون شهوراً وشهوراً، أين هى الحياة فى توقف وتجميد قصص القلوب الصغيرة وفى توقف حركة الطيران والبقاء بعيداً عن أرض الوطن دون انتظار موعد محدد للعودة، وكأن السماء ترفض الاقتراب أو التحليق لتلك الطيور المعدنية التى كانت تقطع آلاف الأميال وتتنقل بين القارات وتعبر البحار والمحيطات فى ساعات معدودة. وكيف توصف تلك الحياة التى تجبرنى على ألا أرى أحبتى إلا على شاشات الهاتف وصفحات التواصل الاجتماعى، تطبيقاً لقانون التباعد الجبرى حفاظاً على الحياة والأمان. وإذا كانت كلمات الشعراء والأدباء تؤكد أن البعد لا يعنى غياب الوجوه فإننى أقر وأعترف أنه أصبح يعنى الكثير، كما أن له صوتاً غريباً يدق رؤوسنا ويحطمها كما لو كان خليطاً أو سيمفونية شكلت وكتبت من الصدى والرنين والفحيح والزئير والصهيل والحفيف. ويبدو أن الشاعر نزار قبانى كان يقرأ ما سيحدث لنا وما نعيشه الآن عندما كتب منذ سنوات (يا سادتى إن السماء رحيبة جداً ولكن الصيارفة الذين تقاسموا ميراثنا تقاسموا أوطاننا وتقاسموا أجسادنا ولم يتركوا شبراً لنا). فلنصلِّ وندعو ونتوسل لله أن يعيد لنا ما سرقته منا الجائحة.