تشهد منطقة الشرق الأوسط حالة من عدم التوازن الاستراتيجى، متأثرة بشكل مباشر بالسياسات التركية التى بدأت منذ سنوات سلسلة من التدخلات العسكرية المباشرة فى عدد من الدول العربية، بدأتها بالعراق ثم سوريا وليبيا، وسبقتها بتحالف مجهول مع دولة قطر، وكذلك التعامل بأكثر من وجه مع إسرائيل، فيما تسوِّق لنفسها بصفتها العدو الأوحد للسياسات الإسرائيلية على عكس الواقع، ما عصف بالاستقرار المزعوم فى منطقة لم تعرف الهدوء منذ بدأ الصراع العربى الإسرائيلى أواسط القرن الماضى.
ويعرَّف التوازن الاستراتيجى بأنه تعادل وتكافؤ مقدَّرات دولة منفردة أو مجموعة من الدول المتحالفة فيما بينها، فى مواجهة غيرها من الوحدات السياسية المنافسة، بحيث تضمن هذه الحالة للدولة أو مجموعة الدول المتحالفة القدرة على ردع التهديدات الموجهة ضدها من دولة أخرى أو أكثر، وبما يمكِّنها أيضاً من التحرك السريع والعمل للعودة إلى هذه الحالة عند اختلالها، بما يكفل تحقيق مصالح الدولة وفرض الاستقرار فى محيطها الإقليمى والدولى.
يتأثر التوازن الاستراتيجى بقوة الدولة فى علاقة مترابطة بين المساحة التى تهيئ القوة والتى تحفظ بدورها الحدود والمساحة، فيما تمثل القوة الاقتصادية عامل الدعم الضامن لاستمرار ذلك الترابط، ويأتى دور القوة العسكرية كأحد أهم عوامل فرض التوازن، ولا يستقيم الأمر دون الإدارة السياسية الحكيمة لتلك المقدَّرات مجتمعة، ولا يمكن إغفال التوافق بين قوة الدولة ودورها، حيث يؤدى فقدان المكانة إلى إضعاف قدرة الدولة على التأثير الفعال على المستوى الإقليمى، وهو ما يجب أن يؤدى إلى توازن القوى على المستوى الإقليمى والدولى، وهو مفهوم ظهر بعد مؤتمر وستفاليا 1648، وتأكد فى مؤتمر فيينا عام 1815.
تُعد منطقة الشرق الأوسط نموذجاً مثالياً لانعدام التوازن بين القوى الإقليمية الخمس إيران وتركيا ومصر والسعودية وإسرائيل، والتى تسعى للتوسع على حساب الآخرين والحفاظ على مكانتها وفرض سيطرتها.
يرجع انعدام التوازن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط لسببين أساسيين، الأول يتمثل فى تزايد الدور التركى فى منطقة الشرق الأوسط وقضاياها، بعد وصول حزب العدالة والتنمية المنتمى لجماعة الإخوان الإرهابية إلى السلطة، وحرص قيادات الحكومة الجديدة على تأكيد تبنيهم رؤية مختلفة نوعياً لسياسة تركيا وعلاقاتها الخارجية فى الدوائر المختلفة، وبخاصة فى الشرق الأوسط، فى ظل تنامى عناصر القوة التركية، والثانى ضعف قوة الدول العربية وانحسار قواها الإقليمية فى كل من «مصر والسعودية» بعد غياب قوتين عربيتين «العراق وسوريا» بشكل كامل.
تنتهج تركيا سياسات متفاوتة فى التعامل مع جاراتها من الدول العربية، بالتدخل العسكرى المباشر كما هو الحال فى كل من العراق وسوريا وليبيا مؤخراً وتحت دعاوى متنوعة، أبرزها الحرب على الأكراد والتى كانت الدافع الرئيسى للتدخل فى كل من العراق وسوريا.. فيما تمثل المطامع الاقتصادية والأيديولوجيا سبباً رئيسياً فى التعامل مع الحالة الليبية، ما يعكس نزعة تركيا الاستعمارية فى محاولة لاستعادة السيطرة كما كان الحال زمن «الدولة العثمانية»، التى شهدت العديد من المذابح ضد العرقيات المتنوعة، ولم تترك محاولة للثورة عليها إلا وأجهزت عليها وأراقت دماء أصحابها، حتى صار لتركيا سجل كامل صُنِّف على أنه «إبادة جماعية» فى معظم البلاد التى خضعت للاحتلال التركى لعدة قرون.
لم تترك تركيا دولة إلا وحاولت التدخل فى الشئون الداخلية لها، وصل ذروته فى محاولة فرض أنظمة حكم موالية، كما فى الحالة المصرية، حيث لا تزال تركيا تمارس أعمالاً تمثل إخلالاً بالسيادة الوطنية المصرية وتدعم جماعات صُنفت بالإرهابية، بخلاف الشبهات المؤكدة بدعم عناصر إرهابية تمارس أعمالاً مسلحة فى مواجهة الجيش والشرطة المصريين خاصة على الحدود مع ليبيا، كما فتحت أبوابها لعناصر هاربة، وأتاحت لهم إطلاق منصات إعلامية، وفتحت قنوات تليفزيونية ومواقع إلكترونية فى محاولة لإثارة التوتر وبث الشائعات وضرب الاستقرار الداخلى.
عمدت تركيا إلى إنشاء تحالفات تؤسس لصراعات إقليمية، ويشكل التحالف التركى القطرى أحد أهم أعمدة صناعة الصراعات الإقليمية فى المنطقة، حيث يضم هذا التحالف قوى الجماعات الإسلامية المتطرفة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات المسلحة «داعش وأخواتها» فى كل من سوريا والعراق وليبيا، والتى اتسعت سيطرتها فى المنطقة عقب ثورات الربيع العربى، بوصول جماعة الإخوان إلى مقاليد الحكم فى مصر، الأمر الذى شكَّل تهديداً فعلياً للأنظمة الحاكمة فى الخليج، فيما شكَّلت الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين فى مصر الانتكاسة الأكبر للمخطط التركى للاستيلاء على المنطقة.
بات الـدور التركـى فـى العديـد مـن القضـايا المحوريـة مؤثراً للغاية، لكنه بقى مرهوناً بالأوضاع الاقتصادية التركية، والتساهل الدولى مع المحاولات التركية لتجاوز دورها المسموح به، خاصة فى ظل صراعاتها فى محيطها الأوروبى، وتقاربها مع روسيا، ما يحدد ظهور ضغوط أمريكية وأوروبية للحد من هذا الدور وفقاً لمصالح تلك الدول، كما حدث مؤخراً عقب الاستيلاء على قاعدة الوطية الليبية، والذى استوجب تدخلاً مباشراً من العديد من دول العالم للحد من التمدد التركى، تجنباً لتحول ليبيا إلى ساحة لمواجهة مباشرة بين مصر وتركيا.
برزت على الساحة سلسلة من التفاعلات وردود الفعل من القوى الإقليمية للحد من تأثير تركيا فى المنطقة، فى محاولة لإنهاء الخلل الاستراتيجى الذى خلقته، وسعياً لاستعادة التوازن المفقود من خلال تحالف «السعودية ومصر والإمارات»، وهى أكثر الدول المتضررة من الدور التركى فى المنطقة، بخلاف الدور الروسى البراجماتى، الذى يعوَّل عليه فى حسم المسألة الليبية.
التداعيات الأخيرة وإرسال الأسلحة والإرهابيين من سوريا فرضت محاولات لإنهاء غياب القوى الإقليمية الفاعلة والمؤثرة فى منطقة الشرق الأوسط، ما يستوجب استعادة قوة النظام العربى من خلال آليات غير قابلة للاختراق وحل الخلافات العربية والتعامل مع المشروع التركى فى المنطقة على أنه مشروع مضاد رغم وحدة المعتقد الدينى والمذهبى.
يمثل حل المشكلة الكردية فى كل من سوريا والعراق إحدى أهم وسائل نزع المبررات التركية للتدخل فى تلك الدول، وهو ما يتيح استقطاب الأكراد بشكل كامل لصالح التوازن المقصود، ويضمن وجودهم ضمن أى تحالف ضد تركيا عدوهم التاريخى.
على المستوى الدولى لا بد من التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بصفتهما القوة العالمية الكبرى للحد من الدور التركى فى المنطقة، كونها تعول على عضويتها فى حلف شمال الأطلسى لفرض إرادتها على عكس توجهات الدول الرئيسية فى الحلف وأبرزها فرنسا.
كما يجب العمل على كشف حقيقة الدور التركى أمام الغرب وأمريكا من خلال الدبلوماسية العربية بما يحقق خروج أردوغان وتركيا من دائرة الحماية الغربية التى يعول عليها الساسة الأتراك، ولا بد من الاستفادة من الخلافات التركية مع بعض دول الاتحاد الأوروبى لخلق موقف أوروبى للحد من الدور التركى.
لا مفر من استخدام الموارد البترولية العربية المستثمرة داخل تركيا فى التأثير على مقدّراتها المالية ووقف الاستناد إليها فى تمويل الأنشطة التركية التى تشكل تهديداً مباشراً للدول العربية، بما يؤدى إلى استعادة جزء من التوازن الاستراتيجى المفقود فى المنطقة.