فى 5 يونيو الحالى، ستحل الذكرى الثالثة لمقاطعة كل من مصر والسعودية والإمارات والبحرين لدولة قطر، بعدما استنفدت الدول الأربع السبل الدبلوماسية كلها لمحاولة إقناع الدوحة بالكف عن أنشطتها المقوضة للاستقرار، والداعمة للإرهاب فى بقاع كثيرة من المنطقة.
ومع دخول تلك المقاطعة، التى تضمّنت عقوبات موجعة، عامها الرابع يثور عدد من الأسئلة المهمة؛ أولها: هل كان من الضرورى اتخاذ موقف جماعى ضد السلوك القطرى؟ وثانيها: إلى أى حد نجح هذا الموقف فى التأثير على سلوك الدوحة؟ وثالثها: ما الذى يتوجب فعله لاحقاً فى هذا الصدد؟
لم تصدر تصريحات حتى كتابة هذه السطور عن أىٍّ من مسئولى «الدول الأربع الداعية لمكافحة الإرهاب» بمواكبة هذه الذكرى، رغم ظهور إشارات خلال السنة الماضية عن «قنوات دبلوماسية خلفية» تتفاعل عبرها محاولات للتسوية، و«حلحلة الأزمة» بدت إرهاصاتها لافتة بموازاة حضور قطر «قمم مكة» فى رمضان قبل الماضى. لكن قطر من جانبها لم تفوت تلك الفرصة، بل انتهزت هذه الذكرى، ليس لتشن هجمات جديدة على الدول التى تقاطعها، أو تهدد باتخاذ إجراءات صارمة، أو تقلل من تأثير «الحصار»، وإنما لتطالب ضمنياً بالعودة إلى الصف الذى غادرته بسلوكها المشين.
يوم الخميس الماضى، صدر تصريحان لافتان عن قطر؛ أولهما على لسان مندوبة قطر الدائمة لدى مجلس الأمن الدولى، علياء آل ثانى، التى انتهزت فرصة عقد اجتماع افتراضى حول «حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة»، لتمرير صيحة غضب وطلب؛ إذ قالت: «إن العقوبات المفروضة على قطر تهدّد أمن واستقرار المنطقة وتنتهك القانون الدولى. تلك العقوبات تم فرضها تحت ذرائع زائفة وواهية، بدلاً من السعى لحل وتسوية الأزمة وأسبابها الجذرية».
أما التصريح الثانى، فقد صدر على لسان المتحدثة باسم الخارجية القطرية لولوة الخاطر، التى ردّت على تقارير (لم نسمع عنها) تفيد بأن الدوحة تدرس مغادرة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، واصفة إياها بأنها «خاطئة تماماً ولا أساس لها من الصحة، وقد ظهرت إثر يأس الناس، وخيبة أملهم فى مجلس التعاون الممزق، بعدما كان مصدر أمل وطموحات».
فى هذين التصريحين ما يوفر بعض الإجابات عن الأسئلة المطروحة؛ ومن ذلك أن المقاطعة تؤثر فى الدوحة تأثيراً ملموساً، وأن تلك الأخيرة تجتهد لكى تنهيها، وأن المضى قُدماً فى المقاطعة يمكن أن يُحدث المزيد من التأثيرات والتغييرات فى سلوك قطر المقوض للاستقرار، وأن الدول الأربع يجب أن تُبقى على درجة عالية من التنسيق لحين تحقيق أهدافها المتفق عليها.
لم تقرّر «الدول الأربع الداعية لمكافحة الإرهاب» فرض هذه المقاطعة إلا بعدما تيقنت من أن الدوحة باتت أحد أكبر ممولى الإرهاب وداعميه فى المنطقة، وهو الأمر الذى استلزم وقفة حازمة، دفاعاً عن أمن واستقرار المنطقة والعالم.
لقد بذلت دول المقاطعة الأربع جهوداً مضنية على مدى أعوام، لحض «الدوحة» على وقف سياساتها الرامية إلى التخريب والتدمير، ومحاولاتها الدائمة لإشاعة الفتن وبث الكراهية والتحريض على العنف من خلال أدواتها المالية والدبلوماسية والاستخباراتية والإعلامية، لكن تلك الجهود لم تُسفر عن تغيير جوهرى فى سياسات قطر، التى استمرت فى دعم طيف عريض من الجماعات والقوى الإرهابية بشتى الوسائل الممكنة.
ومنذ إعلان المقاطعة، طرأت خمسة تطورات مهمة على سلوك الدوحة؛ أولها توقيعها اتفاقية مع واشنطن لمكافحة تمويل الإرهاب، وثانيها الإعلان عن «فتح السجلات القطرية أمام الجانب الألمانى»، فى إطار تقصى ما إذا كانت هناك عمليات تمويل لأنشطة إرهابية، وثالثها الكشف عن بنود اتفاقيتى الرياض 2013 و2014، وهى البنود التى وقع عليها أمير قطر، وأعلن من خلالها التزام بلاده بالحد من الأنشطة الضار والمثيرة للشبهات، فى ما يتعلق بالتمويلات القطرية، ورابعها إجراء الحكومة القطرية تعديلات على قوانينها الجنائية بهدف الحد من تمويلات الأنشطة الإرهابية، وخامسها وأهمها تضعضع قدرات قطر على تقويض الاستقرار فى الدول الأربع فى ظل انشغالها بأزمتها، وإبقاء الأضواء مسلطة على سلوكها الحاد.
لقد دخلت الحملة على قطر مرحلة جديدة، حين أعلنت دول المقاطعة سحب المطالب الـ13، التى أعلنتها فى 2017، وطرحت المبادئ الستة، وهى مبادئ أكثر تركيزاً وقابلية للتنفيذ، كما أنها تشير بوضوح إلى أن تعريف تلك الدول للنجاح فى إدارة الأزمة يتعلق بـ«إدامة الضغوط على الدوحة، لإجبارها على تغيير سياساتها العدائية، وإرباكها، وكشف جرائمها، بحيث تصبح أقل قدرة على إرباك الآخرين، والتأثير فى أمنهم».
ومع ظهور الغضب والطرح الضمنى لطلب التسوية على ألسنة المسئولين القطريين، فى ظل صلابة واتساق إجراءات المقاطعة، تبرز تفاصيل السيناريو المطلوب تعزيزه والتمسّك به فى هذا الصدد، والذى يمكن تلخيصه فى ما يلى: مواصلة الضغط على الدوحة، وتصليب سياسات المقاطعة وإحكامها، لتجد الدوحة نفسها غير قادرة على مواصلة العناد، وتفهم أن الدعم الإيرانى والتركى، وبعض جهود الوساطة، والقدر الراهن من المساندة الدولية التى تحصل عليها، لا يمكن أن يوازن موقفها فى الأزمة. وبناءً على ذلك، توافق «الدوحة» على تلبية عدد من الشروط التى تطلبها الدول المتحالفة؛ ومن أهمها الحد من دعم الجماعات الإرهابية، والتوقف عن إشاعة الفوضى، وتصحيح سياسات «الجزيرة» التحريرية.
لا تزال «الجزيرة» تقدم كل يوم دليلاً على أن السلوك القطرى العدوانى النزق حيال مصر والدول الخليجية المقاطعة الثلاث والمنطقة مستمر ومتوهج، وهى تعبر بوضوح عما يصدر عن الممارسة السياسية القطرية على الأرض فى هذا الصدد، ومن دون تغيير واضح فى سلوك تلك الشبكة المحرّضة على العنف والداعمة للإرهاب يصعب أن تستجيب دول المقاطعة لنداءات الدوحة.
لقد أدرك قطاع كبير من الجمهور العربى أن قطر وأذرعها الإعلامية، وعلى رأسها «شبكة الجزيرة»، تسعى بجهود حثيثة وإنفاق لا حدود له، إلى إشعال فوضى فى المنطقة، وتقويض أركان الدول، وتحويلها إلى نسخ مماثلة لما جرى فى بلاد أخرى، مثل العراق، واليمن، وسوريا، وليبيا.
على دول المقاطعة الأربع الثبات على مواقفها فى إطار تلك الأزمة، ومراقبة أداء «الجزيرة»، وسلوك قطر الميدانى فى المنطقة، وعندما تظهر تغيُّرات ملموسة، يمكن الحديث آنذاك عن حلحلة الأزمة وترميم العلاقات.