منذ أيام قليلة بدأت الدولة المصرية إجراءات «التعايش» مع الوباء بشكل مختلف.. بدأت فى تشكيل وعى المواطنين بدلاً من الرهان عليه.. وهو فى رأيى أفضل ما قامت به الحكومة منذ أن بدأت الأزمة.. لقد أصبح قناع الوجه إلزامياً فى معظم الأوقات.. تمتلئ صفحات التواصل الاجتماعى بشكوى من ثقل هذا الذى يجثم على الأنفاس.. ولكنه أمر أكثر من جيد فى رأيى.. بل ربما كان أفضل بكثير من فرض حظر التجوال الإلزامى الذى تطبقه الحكومة منذ أكثر من شهرين.. المعركة اجتماعية قبل أن تكون طبية.. لا علاج حتى الآن بالرغم من كل خلطات الأدوية التى نراها كل يوم.. كلها مجرد «تصبيرة» للمريض بدلاً من أن يبقى بلا علاج نهائياً.. العلاج الوحيد هو الالتزام.. التباعد.. الحياة بشكل يحميك ويحمى من حولك.. منذ أيام قليلة احتفلت نيوزيلندا بخروج آخر مريض مصاب بفيروس كورونا المستجد من المستشفيات.. وعدم ظهور حالات جديدة لليوم الخامس على التوالى.. نجحت تلك الدولة ذات الخمسة ملايين نسمة فى أن تتخلص بالكامل من الوباء.. وبعد وفيات وصلت لسبع عشرة حالة فقط خلال الفترة السابقة.. الأمر لم يكن صعباً على حكومة تدير خمسة ملايين مواطن فحسب.. فقد كان التحدى أمامها أن تقنعهم بالأزمة وتشركهم فيها.. فتمكنت من الفوز فى السباق بسهولة.. لقد نجحت نيوزيلندا لأنها حددت هدفها الحقيقى.. إن الحل فى وعى الناس.. لقد نجحت حين أدرك المواطنون أن العلاج الوحيد هو أن يأتى الفيروس فلا يجد أحداً.. ليموت وحيداً دون عائل!
لقد أقرت التباعد الاجتماعى كأسلوب جديد للحياة.. وطبقته بقوة القانون وبحزم لا عاطفة فيه فنجحت.. يحدثنا التاريخ عن تلك الموجات العنيفة من وباء الطاعون التى اجتاحت أوروبا فى القرون الماضية.. كلها بدأت من العدم.. وانتهت إليه أيضاً بعدما تمكنت الحكومات من إقناع الناس أنهم هم الأزمة والحل فى نفس الوقت.. إن أفضل علاج لأى وباء فى العالم هو ألا يحدث من الأساس.. ثم إن حدث هو ألا يصيب عدداً كبيراً من البشر.. السؤال الذى يدور بأذهان الجميع منذ أن بدأت الجائحة هو متى ستنتهى؟؟ ولكننى أعتقد أن الصيغة الأكثر واقعية هو كيف ستنتهى؟!
الإجابة عن الصيغة الأولى قد نجدها فى نماذج إحصائية متعددة تخرج علينا كل يوم.. كلها ممكنة الحدوث.. وكلها لا دليل أو ضمان على تطبيقها على الأرض.. الوباء لا ينتهى إلا بعد وجود اللقاح.. تلك هى الحقيقة الوحيدة.. المشكلة تكمن فى الصيغة الثانية.. التى أعتقد أننا أكثر قدرة على الإجابة عنها.. سينتهى الوباء حين نعترف أن الحياة ستتخذ شكلاً جديداً.. أن نؤمن أن التباعد هو العلاج الأكثر فاعلية.. وأنه لا حل سوى إقراره بقوة القانون.. لا حل سوى تطبيق العقوبات على كل من لا يرتدى الكمامة بكل حزم.. ودون الوقوع فى فخ الشكليات.. أرى كل ليلة فى طريق عودتى من العمل هؤلاء الذين يستخدمون القناع لتغطية ذقونهم دون الأنف.. وأرى من يمسكه بيده فى «الميكروباص» حتى يضعه على وجهه وهو يمر من أمام لجان المرور لينزعه مرة أخرى بعدها.. كلهم يتحايلون على القانون.. يظنون أن الفهلوة ستنجح كما تفعل كل مرة.. لا يعرفون أنهم يخدعون أنفسهم.. وأن الفيروس لا يصيب الإنسان عن طريق ذقنه ولا يقف فقط عند لجان المرور..!!
ربما هى المرة الأولى التى أطالب فيها بتطبيق القانون دون روحه.. بل بحذافيره التى لا تعرف أى مبرر.. وقتها ربما يتكون ذلك الوعى الذى نسعى لتشكيله.. أو يمل الفيروس من هذا البلد الأمين.. الذى قرر شعبه أن يعيش.. ولكن بشكل جديد..!