حين تجسد الدراما ملحمة وطنية، بمعاركها العسكرية من واقع ملفات القوات المسلحة، ملحمة لا تزال حية بالذاكرة عايشنا أبطالها وربما بكينا بعضهم، فالجزء المعقد -هنا- هو ملامح «البطل الأسطورى»: تركيبته الشخصية، أفكاره، أحلامه البسيطة، علاقة العشق التى تربطه بالبدلة الميرى، وسلاحه الذى عاش يعانقه وحين ودّع الحياة لم يفارقه.. أنت لا تستطيع «التجويد» ولا المبالغة فى تصوير خصاله، فأسرته موجودة، ورفاقه يدلون بشهاداتهم، وكل دورك أن تنسج هذه الخيوط الإنسانية ببراعة وإتقان مثل قطع «دانتيلا»، وأن يجسدها «أمير كرارة» بأسلوب «سهل ممتنع» لتدخل قلوبنا بسلاسة.. والمدهش أنه عندما تجمّعت شظايا صورة العقيد أركان حرب «أحمد صابر منسى»، بعدما تفرقت باستشهاده، رأيناه أمامنا من دم ولحم.
نعم تقديم العمليات العسكرية على الشاشة بالغ الأهمية، إنه يفك شفرة الأحداث لمن عاصروها، ويغرس فى الأجيال الجديدة روح الوطنية، ويوثق للأجيال القادمة كيف أدرات مصر حربها على الإرهاب فكرياً واجتماعياً وعسكرياً.. وكل مشهد بديكوره وتصويره وإضاءته وموسيقاه التصويرية.. بأداء نجومه مهما كانت الأدوار ثانوية.. هو مشهد استثنائى وبالغ التعقيد، لأن أقل هفوة تنتقص من قيمة العمل ككل.. لكنى فضّلت أن أنظر للعمل من زاوية «صناعة البطل»، من ملامح الإنسان بعلاقاته المتشابكة التى أثرت فى مجرى العمليات العسكرية نفسها وربما أثرت فى أسلوب القيادة فيما بعد.
«القيادى»: لم يكن «المنسى» مجرد قائد عادى، لأن إدراكه ووعيه بقيمة كل فرد فى كتيبته، بخلفيته الاجتماعية والفكرية التى جاء منها، هى التى خلقت ما يُسمى بـ«رجال المنسى».. إنه القائد الذى يعرف جنوده بالاسم، يعيش معاناتهم، يفتش عن ذلك المنطوى ليعرف أنه فارق صديقه الوحيد الذى استشهد فأصبح يخشى «الفقد» واختار العزلة.. كيف يُخرجه من عزلته، يجعله يندمج مع الزملاء ليعرف قيمة أن تدفع حياتك راضياً لتفدى الجميع.
1- «القائد» الذى يسأل جنوده: «لماذا جئت هنا» ويقبل أن تكون الأجوبة بعيدة جداً عن فكرة «الدفاع عن الوطن»، فيبدأ فى غرس أقدامهم راسخة فى أرض سيناء حتى حين يجيب عن سؤال لأحدهم: «هل يشعر أحد أننا هنا»، يستخدم «المنسى» إيمانه العميق: «احتسب عملك عند الله» ويكافئه بأن يربت على كتفه ويمنحه اللقب «الوحش»؟.
كيف تتحول ثكنة عسكرية إلى أسرة مترابطة، موصولة بشريان يتغذى بما يؤمن به «المنسى»: «واحد يروح أحسن ما الكل يروح».. وتحت القصف المكثف ينتبه «رجال المنسى» لكلماته: «ما يخدوش واحد مننا».. وحتى فى لحظة الفراق ينتبهون جيداً: «على العهد يا رجالة أندفن بأفرولى».
هذه العبارات تشكل وعى «الجندى» أياً ما كانت رتبته.. منها يكتسب شراسة القتال، وحب الاستشهاد وقيمة الشهادة والبسالة فى مواجهة العدو حتى ولو دفاعاً عن «جثة الشهيد».
وعلاقة «الكل فى واحد» تبدأ من ذهاب «المنسى» لتعزية جندى فى صعيد مصر لتكتمل صورة للذكرى لم تغب عن ذهن من عاشوا منهم.
2 - «رموز سيناء»: الشيخ «حسان» هو عنوان علاقة خاصة ربطت اسم قبائل سيناء ببطولات الدفاع عن الأرض، يذهب بنفسه للكتيبة 103 ويقابل «المنسى»، ويتعاون معه معلوماتياً ويخبره بمكان اختباء العناصر الإرهابية.. ويسدد الثمن من حياته.. وفى مشهد شديد القسوة نرى الشيخ السيناوى المسن فى بدلة الإعدام التى صممها تنظيم «داعش» والتكفيريون يصورون قتله بالرصاص رداً على الإرشاد ضدهم، وفى نفس الوقت كانت القوات الجوية تبحث عن الشيخ السيناوى لإنقاذه من يد هؤلاء التكفيريين، لكن لم يعثروا عليه.
لم يتخلَّ «المنسى» عن القصاص للشيخ «حسان»، فيذهب إلى التكفيرى فى عقر داره ويقبض عليه بحيلة ذكية أصابت الإرهابيين بذعر شديد.. إنها الأرض التى ارتوت بدماء الأهالى والجنود معاً.. هى التى جعلت المعركة واحدة والثأر واحداً.
فلم يكن غريباً -إذن- أن نرى بسالة «سالم لافى» شيخ شباب بدو سيناء الملقب بـ«وحش سيناء» فى قتال التكفيريين: (هييجى وقت وتعرف إن سيناء أرضى زى ما هى أرضك.. وبكرة تعرف إن حربى هى حربك).. هذه قناعة «المنسى» التى ربط بها الجيش بالشعب بالأرض.
تراه وهو يزور إحدى مدارس شمال سيناء للتحدث مع الأطفال وزرع روح الوطنية بهم وطمأنتهم لوجود الجيش لحمايتهم، وعدم تركهم للإرهاب ليخرب عقولهم.
وتراه فى حوار إنسانى يمحو لغة العنف والدم وهو يحاور طفلاً لتكفيرى أثناء تفتيش منزلهم بحثاً عن الأب الهارب، (آدم: «إيش هتاخدوا منا لقمة الخبز المبلولة كمان؟».. المنسى: «ماتخافش محدش هيأذيك انت واخواتك»).. وحدهم جنودنا يقدمون طعامهم لأطفال إرهابى، فلا يأخذونهم بذنب أبيهم.. وحده «المنسى» يظل يرسل إليهم رسولاً من أهل سيناء بما يحتاجونه.. إنه الإنسان.
3 - «اعرف عدوك»: أكثر لقطة كان يجسدها «أمير كرارة» وتخطف قلبى حين كان يبتسم لأبيه الموشك على الموت ويتحجّر الدمع فى جفنيه، إنها البيئة الطبيعية.. الأسرة المصرية بما فيها من أصالة وتكافل اجتماعى: «الأب طبيب يساعد مرضاه».. وفى المقابل أسرة التكفيرى «هشام عشماوى»، أسرة دموية بالفطرة كارهة للدولة الوطنية، طبيعى أن ينشق ابنها عن الجيش وينضم لجماعة بيت المقدس الإرهابية، ليقاتل بعقيدة تكفيرية ويتبارى مع الآخرين للفوز بإمارة منطقة أو الاحتفاظ بـ«طبنجة ميرى»!.
«المنسى/ كرارة» كان يدرك تماماً أنه فى حال إذا ما كان هناك شخص داخل الجماعات الإرهابية يعرف تكتيات القوات المسلحة، فإن هذا يمكّن الإرهابيين والتكفيريين من عدم الوقوع فى أيدى الجيش المصرى.. فبدّل خططه وتوقيتات الهجوم على البؤر الإرهابية.
كنت أتمنى أن تتسع المساحة للحديث عن المزيد من التفاصيل التى جعلت صورة الشهيد «المنسى» محفورة فى قلوب الناس مثل الوشم.. أن أفى النجوم حقهم فى تنفيذ هذا العمل بحب وحرفية شديدين.. لكن لم يتبقَّ إلا أن أحيِّى من خلَّد اسم «المنسى»، (الذى استشهد فى هجوم إرهابى فى منطقة البرث بسيناء عام 2017)، فى الذاكرة الوطنية: المؤلف «باهر دويدار»، والمخرج «بيتر ميمى»، و«تامر مرسى» رئيس الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية.