لا يوجد مَن هو أفضل من نيلسون مانديلا إذا أردت أن تضرب المثل على الأداء المفعم بالشجاعة والمثابرة والتمسك بالمبادئ والسيرة النقية، فى قارتنا السمراء خلال القرن الماضى، فقد خاض هذا الرجل كفاحاً مريراً عاينه العالم أجمع ضد سياسات الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا. وبعد تعرضه للسجن لمدة 27 عاماً، تم إطلاق سراحه، ليقود حزبه إلى الانتصار فى الانتخابات، ويصبح رئيساً، ومن ثم يشكل حكومة وحدة وطنية حققت إنجازات ملموسة، قبل أن يمتنع عن الترشح للرئاسة مجدداً، مكتفياً بمكانته الأخلاقية والسياسية العالية، والقيم التى أرساها ودافع عنها، والاحترام العميق الذى يحظى به حول العالم.
فى يونيو من عام 1990، تمت دعوة «مانديلا»، بعد شهور من خروجه من السجن، إلى لقاء إعلامى، أجراه مذيع قناة «إيه بى سى» الشهير آنذاك تيد كوبل، فى «سيتى كوليدج»، فى نيويورك، حيث مُنحت الفرصة للمشاركين فى هذ اللقاء لتوجيه الأسئلة إلى الزعيم الأفريقى المناضل بحرية وانفتاح.
وقف أحد الحاضرين، وسأل مانديلا: «لقد شاركناك موقفك ودعمنا كفاحك ضد الفصل العنصرى، لكن خاب أمل بعضنا لاحقاً، حين شاهدنا نماذج حقوق الإنسان التى تفضلها. لقد التقيت ياسر عرفات ثلاث مرات فى ستة شهور، وأشدت بسجل العقيد القذافى الحقوقى ودعمه للحرية والسلام، كما امتدحت فيديل كاسترو، واعتبرت أنه قائد لحقوق الإنسان، فهل هذه هى النماذج التى تفضلها فى مجال حقوق الإنسان؟».
كان مانديلا خطيباً مفوهاً، ولم يكن من السهل أبداً توريطه أو الضغط عليه فى محفل عام، لذلك فقد أجاب على الفور قائلاً: «أحد الأخطاء التى يقع فيها بعض المحللين السياسيين أنهم يعتقدون أن أعداءهم يجب أن يكونوا أعداء لنا. نحن نستطيع أن نفعل ذلك، لكننا لن نفعله. لدينا نضالنا الخاص. منظمتنا مستقلة ولها سياساتها الخاصة. وموقفنا تجاه أى دولة يتحدد بموقف تلك الدولة من نضالنا. عرفات والقذافى وكاسترو دعموا نضالنا إلى الحد الأقصى. لا يوجد سبب يجعلنا نتردد فى الإشادة بما فعلوه تجاه حقوق الإنسان فى بلدنا. لقد دعموا قضيتنا بشكل كامل، وهم فعلوا ذلك بإتاحة كل الموارد المناسبة لنا، وليس فقط عبر الخطابات الإنشائية».
باستثناء ياسر عرفات، الذى كان زعيماً مناضلاً يكافح لكى يستعيد حقوق بلاده التى سلبها الاحتلال الإسرائيلى العنصرى، فإن حالتى القذافى وكاسترو كانتا مثيرتين للجدل بطبيعة الحال، إذ يصعب جداً اعتبار أن الزعيمين الراحلين الليبى والكوبى قد وفرا الحد الأدنى من اشتراطات حقوق الإنسان فى تجربتى حكمهما اللتين طالتا لعقود، كما يصعب جداً اعتبار أنهما مساندان لقضايا حقوق الإنسان بشكل عام، فى ظل التجاوزات والانتهاكات الخطيرة التى وقعت فى عهديهما.
تفتح إجابة مانديلا، التى حظيت بالتصفيق الحاد والطويل فى قاعة «سيتى كوليدج» قبل ثلاثة عقود، الباب أمام نقاش مهم يجب أن يُثار حول علاقة السياسة بحقوق الإنسان، وفى قول آخر حول التوظيف السياسى لحقوق الإنسان.
لقد بات واضحاً لنا أن كثيراً من القادة والنخب السياسية، بل وأعضاء الجماعات الحقوقية، يخلطون بين ثلاثة مفاهيم فى علم السياسة، أولها مفهوم القوة، التى تعنى امتلاك عناصر التأثير فى الآخرين من أجل قضية ما، وثانيها مفهوم التلاعب السياسى، الذى ينطوى على المراوغة والتحايل لتبرير موقف سياسى ما، وثالثها مفهوم حقوق الإنسان، الذى يجب أن يبقى جوهرياً وأصيلاً وبعيداً عن الاستخدام السياسى إذا خلصت النوايا إزاءه، وتكرست إرادة الانتصار له واحترامه فى كل الظروف والأحوال.
يحظى «مانديلا» بمكانة عالمية مرموقة، وقد مُنح عن استحقاق وجدارة جائزة «نوبل للسلام»، وهو من أفضل وأنبل من حصلوا عليها بكل تأكيد، ومع ذلك، فإنه فيما يخص القذافى وكاسترو، وقع فى حالة الخلط المستديمة بين البعدين السياسى والحقوقى.
فى الأيام الأخيرة، انشغل العالم عن متابعة تداعيات جائحة «كورونا» جزئياً بسيل الأخبار والصور والتقارير التى ترد من الولايات المتحدة، عقب مقتل الأمريكى الأسود جورج فلويد على يد الشرطة الأمريكية، فى واقعة تجسد العنصرية المقيتة التى ما زالت تضرب المجتمع الأمريكى، وهو أمر استنفر اهتماماً عالمياً لافتاً، وأعاد قضية العنصرية الأمريكية إلى الواجهة، وانخرطت وسائل الإعلام الجماهيرية و«السوشيال ميديا» فى متابعته والتفاعل معه بكثافة شديدة.
قبل أسبوع، نشرت «بى بى سى» تقريراً لافتاً عن تلك الوقائع، أشارت فيه إلى ما اعتبرت أنه «تفاعل كبير على المستويين الشعبى والإعلامى فى العالم العربى مع قضية جورج فلويد»، ولاحظت الانتقادات الكبيرة التى تم توجيهها إلى الحس العنصرى فى الولايات المتحدة، والاتهامات لواشنطن بالكيل بالمكاييل المتعددة فى قضايا حقوق الإنسان، عبر وسوم راجت وحظيت بالصدارة عبر «السوشيال ميديا»، مثل «حياة السود مهمة»، و«العنصرية فى أمريكا»، و«أمريكا تنتفض».
وفى المقابل، فقد لوحظ أن كثيراً من الدول امتنعت عن اتخاذ مواقف سياسية واضحة تجاه هذه القضية، ويمكن القول إن كثيراً من أنظمة العالم حددت مواقفها حيال تلك التطورات استناداً إلى مواقفها من إدارة ترامب، وليس انطلاقاً من مواقف جوهرية وأصيلة تجاه حالة حقوق الإنسان.
لقد حرصت على متابعة ما يُكتب ويقال عبر وسائط «السوشيال ميديا» فى العالم العربى إزاء تلك القضية، وأمكن لى أن أستخلص بعض التوجهات، التى ما زالت فى حاجة إلى دراسة علمية ميدانية موثوقة لقياسها وتوثيقها، ومن تلك التوجهات ما بدا واضحاً جداً بخصوص بعض الانتقادات الحادة لـ«العنصرية الأمريكية» من حسابات لأشخاص معروفين بأنهم ببساطة عنصريون.
ويمكن القول إن كثيراً من المواقف العربية الرائجة فى هذا الصدد انطلقت فى مقارباتها لقضية جورج فلويد من محددات سياسية وليست حقوقية، وهى محددات تتعلق أساساً بالموقف من واشنطن وإدارة ترامب وحسابات نفعية محضة، وليس من موقف حقوقى ثابت وجوهرى.
يجب أن يكون موقفنا تجاه الجرائم العنصرية وانتهاكات حقوق الإنسان فى أى مكان فى العالم نابعاً من إدراكنا أن تلك الحقوق أصيلة، ومتكاملة، وغير قابلة للتجزئة، وغير قابلة للتوظيف السياسى، وقبل هذا كله أن ندرك أن الإنسان يستحقها أياً كان موقفه السياسى، وأياً كان موقفنا السياسى منه.