أدرك تماماً طبيعة الخط الفاصل بين الخدمة الطبية العامة التى تقدمها الدولة، والخدمة الطبية الخاصة التى يقدمها ما يطلق عليه القطاع الاستثمارى فى المستشفيات الخاصة، من حيث الأسعار. الدولة تتعامل مع صحة المواطن كجزء من «أمن المجتمع»، بل وأمنها القومى، من هنا جاءت مقاربتها لاقتلاع فيروس سى «جذرياً»، فى تجربة قومية فريدة، ومبادرتها «100 مليون صحة»، التى هى الأولى من نوعها أيضاً والكشف المبكر عن سرطان الثدى، وغير ذلك، وقطاع الطب الاستثمارى، يقدم الخدمة ويريد أن يكسب، وهذا مفهوم، لكن الفارق فى الطبيعة بين القطاعين، لا يمكن أن يعنى أبداً، أن يطلق القطاع الاستثمارى «آليات السوق» بلا أى كابح فى لحظة مصيرية كالتى نمر بها، ولا حتى فى الظروف العادية، لأنه يقدم العلاج لمجتمع له مواصفات من حيث مستوى الدخول والتركيبة، وغير ذلك، والسؤال البديهى الذى ينبغى طرحه هو: لمن يتوجه هذا القطاع بالخدمة؟، هل فقط لأثرى الأثرياء، الذين هم فى غنى عنه، وقادرون فى الأوقات العادية على السفر إلى الخارج، وتلقى العلاج فى بقعة من العالم، أو أنه يُفترض أنه يتوجّه إلى شرائح الطبقة المتوسطة، بما فيها أستاذ الجامعة والقاضى والمهندس وموظف الدولة فى دوائر الإدارة العليا، وحتى الأطباء إذا استثنينا منهم النسبة المحدودة جداً جداً من أصحاب العيادات الشهيرة؟ موقف بعض الشركات المالكة لقطاع المستشفيات الاستثمارية فى محنة علاج الكورونا، نبّه المجتمع ورأيه العام، إلى أن المستشفيات الاستثمارية العاملة بمصر تكاد تكون ««خارج السيطرة».. حتى قبل محنة كورونا، وهى التى تملك ما يقرب من خمسين ألف سرير، ومعظمها تؤول ملكيته إلى رؤوس أموال غير مصرية، تفرض أرقاماً لأداء الخدمة تفوق الأرقام التى تقدم بها الخدمة نفسها فى الخليج وحتى أمريكا، والحقيقة أننى أتساءل، إذا استثنينا الفئات التى اغتنت فى العقود الأخيرة، فى سياق نحن نعلمه، وسألنا من هو القادر على «توغل» أسعار العلاج فى هذه المستشفيات؟ من بإمكانه أن يدفع مائة ألف جنيه فى اليوم؟ أحد الأصدقاء، وزميل دراسة متفوق، أستاذ فى كلية طب كبيرة، قال لى حرفياً إنه «مذعور» هو وأسرته، أن تضطره الظروف إلى الدخول للعلاج فى مستشفى استثمارى! فما البال بباقى شرائح الطبقة المتوسطة!
هل يد وزارة الصحة «مغلولة» عن تنظيم أسعار الخدمات العلاجية بصورة «عادلة»؟ وفق معلوماتى أن قانون تنظيم المستشفيات العلاجية، يحوى مادة تعطى وزارة الصحة (الدولة) الحق فى أسقف أو حدود قصوى بالأسعار، وأن هذه المادة شبه معطلة، ليس اليوم فقط، ولكن منذ تغلغل فكر «الاستثمار» وآليات السوق فى هذا القطاع.. نحن إزاء هيمنة شبه كاملة لشركات، ورؤوس أموال، استحوذت على جزء أساسى ونسبة لا يُستهان بها من منافذ العلاج فى مصر، وهى فعلياً وبالدليل «خارج السيطرة»، لا يمكن أن نستجدى منها «معقولية» التسعير، فى أى وقت، ولعل الأسلوب الذى تصرّف به جزء من قطاع المستشفيات الاستثمارية فى حال مرورنا بالوباء، أعتبره ليس فقط كاشفاً، بل هو المنحة التى تخرج من قلب المحنة، لنتوقف ونطالب بتفعيل رقابة أجازها القانون فى أحقية الدولة، لوضع حدود «عادلة» قصوى لأسعار العلاج، حدود ليس فيها «مَن»، ولا «إجحاف»، فلا نحن ننكر طبيعة الكسب لهذا القطاع، ولا نستطيع الاستمرار فى سياق فكرة التربّح من المرض بلا حدود.. اطلبوا قوائم العلاجات فى مستشفيات الخليج وأوروبا وأمريكا، وعلاقتها بالدخول، ولتكن مؤشراً، أما أن تأتى أسعار بعض المستشفيات فى مصر أضعاف أمريكا والخليج، فهذا ما لا يمكن استمراره. لا بد من «وقفة» من الدولة، والمجتمع ليس على نمط ما جرى من إعلان تسعيرة يزدريها البعض، ويتم تجاهلها، وفى النهاية ينفّذون ما يرونه، ولا بطريقة النوايا الطيبة، كما جاء على لسان السيدة الدكتورة وزيرة الصحة: «إن مصلحة المرضى فوق أى اعتبار، هذه نوايا طيبة لا تُجدى مع فكر يرى أن آليات السوق هى الحاكمة فى كل وقت، وفوق أى اعتبار، فالحقيقة أن بعض قطاع المستشفيات الاستثمارية، تبدو ممارستهم وكأنهم «خارج السيطرة».