منذ مراهقتى وما قبلها وأنا تلازمنى أصوات جنيات الحكاية!
تحكى جنيات الحكاية لى أشياء كثيرة عن الناس الذين لا يبدون كمثلنا، وعن الأقوام الذين هلكوا قبلنا، وعن البلاد التى خلقها الله على الجانب الآخر من البحر، وعن كل الجميلات اللاتى وقعن فى عشق دميمين فلم يبالين إلا بما تراه أعين قلوبهن، وعن كل الأطفال الذين وُلدوا مشوَّهين فعاشوا يصارعون أقداراً قاسية، وعن كل اللطائف التى يخفيها الله بحنان فى أرغفة الفقراء، وعن كل الصيادين الذين ألقوا شباكهم فخرجت خاوية، وعن كل النساء اللاتى حبلن سفاحاً فقُتلن، والأخريات اللاتى لم يحبلن أبداً فعشن حياة مديدة يحوّلن أمومتهن إلى مخبوزات حُلوة يُسعدن بها كل الأطفال الذين لم ينجبنهم.
منذ مراهقتى وما قبلها وأنا مشغوفة بحكايات الناس، بأقدار الله وصنيعه فيهم، بالمسكوت عنه وراء المنطوق، ولا أجد لشغفى راداً!
وقد كنت دوماً أردد لنفسى أنى أهرُب من التزاماتى كطالبة علم بتلك «الصرمحة» الذهنية اللامنتهية التى كانت تخلق لى على الدوام عوالم موازية تقوم على الفضول والأسئلة و«نكش» عباد الله واستدعاء الخافى من حكاياتهم وتفصيلات مخاوفهم وأحلامهم.
كنت فى الغالب أرى فى هذا الشغف لدىّ قدَراً ثقيلاً مبدداً للطاقة ومستنزفاً للعاطفة ومرهقاً للذهن، والأخوف أنه بدا لى على الدوام سارقاً للعمر مضيعاً لحياتى فى حيوات الآخرين.
لكنى ذات يوم نمتُ وصحوت لأجد نفسى قد كبُرت!
كبُرت على الأقل بما يكفى لأن أعيد قراءة الآية الكريمة: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا» لأعرف أن السير فى الأرض ومخالطة العباد باب علم لمن يسير ويخالط، وأن بعض المعرفة العقلية يتأتى بالقلوب، وأن تقليب العيون فى وجوه خلق الله والإنصات لحكاياتهم مفتاح موعود لأبواب فهم كثيرة مُغلّقة لم تكن لتنصاع بغير ذلك.
كبُرت وعرفت أن هناك علوماً على أرضنا هذه تقوم بالأساس على السير والإنصات.. لكننا لا نسير ولا ننصت ولا نقلب العيون يا رب!
***
فى 2005 ارتحلت بحقائبى إلى شمال المتوسط، باحثة عن أرض أخرى وعن غرباء بعيون ملونة بألوان أخرى غير عيوننا!
هناك رأيت الباحثين وطلاب العلم كمثلى، لكلٍّ جنيته الطيبة التى توسوس له بالحكايات وتدفعه دفعاً للسير فى الأرض واستكشاف ما فى داخل صدور الغرباء.
هناك وجدت باحثين يوقفون سنوات من أعمارهم الغضة على تتبع حكايات الأوروبيين الذين يتحولون للإسلام.. يدخلون بيوتهم ويسألونهم عن كل الأشياء! يقلبون فى أوراقهم وخزانات ملابسهم ويتعرفون على زوجاتهم ويشاكسون أطفالهم وينبشون فى تاريخ الحب والسفر والجنس الخاص بهم، فقط ليعرفوا إجابة السؤال: لماذا يتحول الناس إلى تلك العقيدة الغريبة الوافدة من الصحراء البعيدة.
ووجدت باحثين آخرين يدورون حول أنفسهم كى يجمعوا حكايات الذين نُبذوا من مجتمعاتهم لأن لهم ميولاً جنسية مثلية، أو لأنهم مَلكيون فى وطن جمهورى أو جمهوريون فى وطن ملكى أو بيضٌ فى بلد أسود أو سود فى بلد أبيض.
ووجدت باحثين كرّسوا سنين عدة لتجميع حكايات النساء اللاتى وقعن فريسة للاغتصاب فى بلادهن الغارقة فى تاريخ دائرى من الحروب، أو اللاتى لم يُغتصبن لأنهن قررن أن يتحولن لـ«أرامل سود» يفخخن أجسادهن فى مواقع العدو انتقاماً لأزواج قُتلوا أمام أعينهن.
وجدت باحثين يلهثون وراء حكايات الفارين من جحيم السجون فى بلاد الشرق، وآخرين يلهثون وراء حكايات المصابين بداء نقص المناعة المكتسب، أو وراء حكايات النساء الهاربات من أزواج مدمنين على الخمور لا يكفون، فى سُكرهم، عن ضرب نسائهم.
ووجدت باحثين يجمعون من الناس حكاياتهم مع الشتائم الخارجة، أو مع النكات اللاذعة، أو مع معاشرة المصابين بأمراض نفسية بعينها.
هناك، التقيت باحثين لا همّ لهم إلا البحث فى حكايات الباقين على قيد الحياة ممن اعتُقلوا فى مخيمات النازى فى الثلاثينيات، أو فى حكايات أحفاد اليهود الذين لقوا حتفهم فى الهولوكوست أو فى حكايات مدمنى الجنس الافتراضى أو المواقع الإباحية.
هناك، وراء البحر، يعرف طلاب العلم كيف يسيرون فى الأرض وكيف يعقلون بآذانهم وعيونهم وقلوبهم، كما لو كان فى داخل كل منهم رحالة قلق صغير لا يكف عن السير وراء معرفة لم تسجلها الإنسانية بعدُ على ورق.
هناك لا تُضجرهم أصوات جنيات الحكاية.
وهناك يعرفون كيف يغربلون ما جمعوا بصبر من الحكايات، وكيف يصلون من نسجها معاً إلى ما يرونه حقائق الحياة، طامحين إلى تغيير مصائر أوطانهم وأقدار شعوبهم. وبينما يجيدون هم البحث بدأب وراء الخافى من القطع الدقيقة المفقودة فى لوحة الفسيفساء الإنسانية الضخمة ويفتشون وراء أصول الأشياء لينتجوا معارف جديدة، وليعقلوا بقلوبهم معانى جديدة، نكتفى نحن بالنميمة فى المجالس المغلقة أو على فيس بوك.