التقصير فى مد جذور وخطوط تواصل واتصال مع العمق الأفريقى للدولة المصرية يعود -فى جانب منه- إلى النخبة الثقافية التى تشكلت مع البدايات الأولى لتأسيس مصر الحديثة، فمنذ عصر رفاعة الطهطاوى، ومروراً بالشيخ الإمام محمد عبده، وحتى عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين كان هناك انبهار بالحضارة الأوروبية وشوق إلى بناء دولة عصرية على الطراز الأوروبى، سواء فيما يتعلق بالفكر والقيم، أو فيما يتصل بالعلم والصناعة والتكنولوجيا. دعا الدكتور طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» إلى الذوبان فى الحضارة الأوروبية بحلوها ومرها، بخيرها وشرها. الدافع الموضوعى الذى كان يحرك النخبة لتبنى هذا التوجه تعلق بحالة التخلف والتراجع التى كان عليها الشرق، وهى الحالة التى تكشفت فى المواجهة المحبطة التى خاضها المصريون مع الحملة الفرنسية، والتى فضحت ما كانت عليه الدولة حينذاك من ضعف وتردٍّ فى كافة النواحى.
من المفارقات العجيبة أن البعد الأفريقى الذى اختفى فى خطاب النخبة الفكرية المثقفة كان حاضراً بقوة فى خطاب وأداء نخبة الحكم. وقد يكون من المفيد أن نتذكر معاً أن محمد على، مؤسس مصر الحديثة، كان يرى فى السودان عمقاً استراتيجياً لمصر، وآمن خلفاؤه مثل عباس حلمى الأول وسعيد بن محمد على بأهمية العمق الأفريقى. ولعلك تعلم أن الخديو إسماعيل كان الأشد اهتماماً بالبعد الأفريقى من بين حكام الأسرة العلوية، وقد حاول بسط النفوذ المصرى إلى ما هو أبعد من السودان. ومن الأمور اللافتة أن «إسماعيل» هو صاحب التوجه الأبرز بجعل مصر قطعة من أوروبا، أى إنه كان منحازاً أكثر من أفراد النخبة الفكرية والثقافية إلى الذوبان فى الحضارة الأوروبية واستنهاض القدرة العلمية والتقنية للمصريين، لكنه لم يهمل العمق الأفريقى لمصر، كما فعل العديد من أفراد النخبة. ظل السودان جزءاً من مصر ومصر جزءاً من السودان طيلة فترة حكم الأسرة العلوية، واختلفت الأمور بعد قيام ثورة يوليو، حيث استقلت الدولتان عن بعضهما البعض، بعد عقود طويلة من التوحد والاندماج.
فى عام 1947 تأسس معهد الدراسات السودانية الذى تحول إلى معهد البحوث والدراسات الأفريقية فى السبعينات، وبدأت نخبة علمية مهمومة بالشأن الأفريقى فى التشكل، حاولت واجتهدت فى الدفع بالبعد الأفريقى إلى دائرة الاهتمام العام، لكن صوتها كان مرتهناً باتجاه السلطة التى تحكم، فكان يعلو عندما تصبح أفريقيا من أولويات صانع القرار، ويخفت فيما عدا ذلك. وفى أغلب الأحوال ظل الغرب بشقيه الأوروبى والأمريكى الورشة التى تتشكل فيها عقول النخبة الأبرز مسموعة الصوت، وقد اندمجت النخبة الثقافية مع نخبة الحكم، وظلت أفريقيا على الهامش.
مصر بحاجة إلى تنشيط آلتها الإعلامية الموجهة إلى أفريقيا. الإذاعات الموجهة إلى القارة السمراء، والتى نشأ أغلبها فى عهد جمال عبدالناصر، فى حاجة إلى تطوير وتنشيط، مكاتب الإعلام الخارجى التابعة للهيئة العامة للاستعلامات وتعمل فى دول أفريقية فى حاجة إلى تنشيط، نحن بحاجة أيضاً إلى قنوات تليفزيونية قادرة على مخاطبة عمقنا الأفريقى بشكل فاعل ومؤثر. مصر تمتلك الكثير من الأدوات، لكن مشكلتها فى أمرين: الأول الاختيارات العشوائية للقيادات المسئولة عن تفعيل هذه الأدوات، والارتكان إلى أشخاص ترى المنصب مجرد مكافأة أو «نفحة»، والثانى أن الولاء الشكلى المثرثر أعلى قيمة من الولاء الموضوعى البنّاء.