ما زلت أذكر والدى رحمه الله وهو يسألنى السؤال الأكثر شعبية فى منزلنا عبر سنوات الطفولة والشباب على حد سواء.. والذى كان يحرص عليه فى كل مناسبة تقريباً.. وهو: «هل غسلت يديك قبل أن تفعل هذا الذى تفعله؟!».
كان أبى يحرص على أن يتأكد أننى غسلت يدىّ عند دخولى من باب المنزل.. وقبل الجلوس على مائدة الطعام.. وقبل شرب أى شىء.. وقبل الاستذكار.. بل وربما قبل مشاهدة التلفاز..!
كان يؤمن بأن غسيل الأيدى هو كلمة السر فى الوقاية من كل الأمراض.. وكأنه كان يملك العين الميكرسكوبية التى ترى تلك الجراثيم الصغيرة والميكروبات بأشكالها المختلفة التى تملأ الحياة من حولنا وتتقافز على أيدى الناس أمامه.. ويملك يقيناً بأن الحل الوحيد للقضاء عليها هو غسل الأيدى بتلك الصابونة البيضاء التى كان يحبها.. وبالتالى كان همه الأول هو أن يتأكد أن كل من فى المنزل يغسلون أيديهم بانتظام.. وبتكرار قد يدعو للملل.
الأمر قد استمر حتى بعد أن كبرت وصرت طبيباً يعرف خطوات «التعقيم الجراحى» جيداً.. ويدرك سبل الوقاية من التلوث بكل أشكالها.. أيضاً استمر والدى فى ذلك التنبيه المكرر كلما زرته أو زارنى.. بل وصل الأمر إلى أنه كان يناقشنى فى طريقة غسل الأيدى.. ويراقبنى وأنا أفعلها كل مرة وكأنه يتأكد من معرفتى بالطريقة الصحيحة!!
تلك الذكريات الحميمية جالت بخاطرى بالتزامن مع قرارات معظم دول العالم بإعادة الحياة مرة أخرى بدرجات متفاوتة وهى تحذر أن المرض ما زال موجوداً.. وأن الالتزام بالنظافة الشخصية وتعليمات الوقاية والتباعد الاجتماعى هى السبيل الوحيد للنجاة..!
المشكلة أن أحداً لا يهتم بتلك التفصيلة الصغيرة التى يمكن أن تكون مفتاح الحل كله.. لا يهتم أحد بالتنبيه على الأطفال بغسل أيديهم بانتظام.. بل وإن فعل فلا يهتم بتعليم هؤلاء الأطفال الوسيلة الصحيحة لغسل الأيدى.. ويراقبهم وهم يفعلونها أمامهم..!
يعرف الجميع أن العالم قد عاد للحياة لأنه مضطر لذلك وليس لأن الوضع قد بات يصلح لإعادة الحياة.. فكوفيد لم ينتهِ.. ولن يذهب بعيداً فى الأغلب أو يصيبه الملل فيرحل.
حتى بعد اكتشاف مصل فعال له، سينضم لقائمة تلك الأمراض التى تدعو لنا أمهاتنا كل صباح بأن يكفينا الله شرها..!
التحدى القادم فى هذا العالم شخصى للغاية.. لا تملك الدول والحكومات له شيئاً.. هو تحدٍّ يعتمد فى المقام الأول على حرصك الشخصى على نظافتك.. والتزامك بإجراءات الوقاية من الأمراض.. كل الأمراض وليس كوفيد وحده..!
الأيام القادمة تحمل الكثير.. فقريباً سنعتاد كوفيد ونتناسى وجوده بعض الوقت.. حتى يأتى ذلك الرجل الذى سيسقط مريضاً لسبب غير مفهوم فى أحد أسواق الصين بعد عدة سنوات.. ونكتشف أن السبب هو فيروس جديد تجمعت سلاسل RNA الخاصة به فى أمعاء فأر أو خفاش جبلى.. لتبدأ الكرّة من جديد..!
الحرب القادمة هى «حرب غسيل الأيدى» كما وصفتها «نيويورك تايمز» فى تقرير لها أراه الأكثر واقعية وطرافة فى الوقت نفسه.. هى حرب الوعى المتعلق بالنظافة الشخصية والوقاية.. والتى لو لم نخرج من تلك الأزمة إلا بها لانتصرنا..!
أعتقد أن إضافة مادة جديدة لطلبة المدارس فى وقت مبكر لتعليمهم أساليب الوقاية الشخصية وكيفية غسل الأيدى قد يكون ضرورياً فى الفترة القادمة.. فالقادم سيكون متخماً بالفيروسات والأمراض.. وربما كان السبيل الوحيد للنجاة هو «غسل الأيدى» كما كان يصر أبى رحمه الله.. أو هكذا أعتقد..!