هذه العبارة: «قد يأتى الخير من السوء»، شدتنى فى حوار ناضج راقٍ فى أحد الأفلام الغربية، أرادت بها الصديقة أن تنتشل صديقها من ليل الأحزان التى تغشته منذ فقد زوجته بعد سقطة لها موجعة.. لم يعد يرى سوى الانتقام والثأر لخسارته المزدوجة، وبات أسيراً للواعجه النفسية وما اكتنفه من شعور عميق بالسوء! ماذا تقول له؟! شدنى فى العبارة بساطتها وسلاستها وبُعدها عن الوعظ الصوتى أو الخطابى الذى كثيراً ما تقع فيه الأفلام والمسلسلات العربية، إلاّ فى ما ندر..
قليل، بل نادر، فى أفلامنا ما ارتفع حواره إلى هذا النضج السلس الذى ينساب فى بساطة هادئة بلا تقعر ولا خطابة.. خُذ على سبيل المثال الحوار العميق الراقى الذى صاغه كاتبنا الأديب الراحل إحسان عبدالقدوس، وجسّده سينمائياً الخيط الرفيع القديران فاتن حمامة ومحمود يس.. تستطيع أن تستخرج من كل عبارة درساً عميقاً من دروس النفس والحياة، يجرى سلساً فى بساطة، وتقع عليه وتمسك بمعناه بلا وعظ ولا خطابة.. فارق بين هذا الحوار الذى يرتقى برؤية وفهم وذوق ونضج المتلقى، وبين حوارات يستهويها محض متابعة القفشات والعبارات الشائعة فى الأحياء الشعبية أو القرى أو النجوع.. مشدودة بالألفاظ والمترادفات عن العناية بالمعنى.. قد لا يجيد صياغة وجدل الحوار، من يتقن الحبكة القصصية اللازمة للأعمال الدرامية.. وهكذا الحياة ذاتها.. لا يتصادف فى كل الأحوال أن تجتمع سلامة الفكرة مع صدق التعبير!
لم تأتِ العبارة التى شدّتنى: قد يأتى الخير من السوء، لم تأتِ بجديد فى واقع الحياة.. فمعناها متداول، قد يفهمه الناس بالسليقة، ومن فاته الفهم يدركه فى خطاب الدين كقول القرآن المجيد: «فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً»، وفى الحكم والأمثال.. من مثل: ما تضيق إلاَّ لتفرج.. أو من مثل: يخلق من ظهر الفاسد عالم، ومن ظهر العالم فاسد!
الذى شدنى فى العبارة، بساطة صياغتها، وعمق معناها، وسلاستها البعيدة عن أى تنطع أو تقعر أو مغالاة.. نعم، قد يأتى الخير من السوء.. أليست النوائب التى تحل بالأفراد والجماعات، حافزاً لليقظة والانتباه واستخراج قدرة الصبر والصد والمقاومة والخلاص؟! أليست العاهات التى تولد مع الشخص أو تلم به حافزاً نراه كل يوم فى تقوية باقى حواسه وملكاته؟! ألا تزداد قوة إبصار العين السليمة بعد إصابة الأخرى، ويزداد السمع رهافة وحساسية وقدرة مع توارى أو زوال الحاسة البصرية؟! أليس يُقال كل ذى عاهةٍ جبار؟ المعنى هنا لا ينصرف إلى التجبّر والجبروت، وإنما إلى ما تحفّزه العاهة من استيقاظ ونمو الحواس والملكات والعوامل التعويضية!
فى القرآن المجيد درس بليغ لمن يتأمل الآية: «لِكَيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ».. المبادرة إلى الفرح أو الحزن، اختيالاً أو غفلة لا تدرك أن الأسى قد يعقبه ما يسر ويرضى، وأن الفرح قد يسفر عما يُحزن.. من يدرك واقع الحياة، يعرف أن مشاهدها متتابعة، وأن أحداً لا يستطيع أن يمسك بالمشهد الأخير إلا بعد حدوثه!
فى الفيلم الذى شدتنى فيه عبارة: «قد يأتى الخير من السوء»، لفتتنى عبارات أخرى تجمع بين عمق المعنى وسلاسة وبساطة التعبير.. «الدم لا يمحو الدم».. كم نحتاج إلى وصايا ومواعظ لندرك معنى هذه العبارة التى تدمغ بلا خطابة كل صور القتل والثأر والانتقام، فضلاً عن صور التعدى والإيذاء والتدمير والهلاك لبنى الإنسان؟!
هل يستطيع طالب الورد أن يعثر على شجيرته بين الخصومات والعداوات، وهل استطاعت الأديان أن تجمع الإنسانية علـى وداد المحبة، ومباعدة العداوات؟! اختار الأستاذ الشاعر المحامى الأديب محمد عبدالله محمد «شجيرة الورد» عنواناً لقصيدة يخوض فيها إلى أعمق الأعماق، ويرصد عوامل نمو الأحقاد وتبادل العداوات بين الجماعات، وهل يمكن لمجتهد أن يفهم الدين إذا استخف بتداخل هذه الأحقاد والعداوات التى يتصور باعثوها أنها يمكن أن تتوارى وراء علو صوت العبادات.. هذه الأحقاد التى تتجذّر وتتصل حتى بعد الموت وتتحكم فى الأرواح والمصائر إلى الأبد.. إن «شجيرة الورد» لا تبقى فى الغابات إلا مع الأشواك.. مصيرها للأسف ليس فى يدها، بل فى قبضة الغابة الشمطاء التى ترمز إلى شرور الحياة، وماذا يفيد عبير أو أريج هذه «الشجيرة» إذا لم يشاركها فيه الأقارب من عشب ومن شجر؟!
يقول الشاعر الحكيم محمد عبدالله محمد:
هذا إلى النارِ للإحرْاقِ يرصْدُهُ فإِنَّهُ الخَصْمُ عادانا نُعاديهِ
شريعةُ الحرْبِ حمراءُ معالمهُا لا يُخْطُئ الخَصْمُ ما فيها وما فَيِهِ
بها الجماعاتُ أعداءٌ علىَ حَذَرٍ من بعضِها البعضُ تُبدْيِهِ وتُخْفِيِه
وظيفةُ الدِّين تأيِيدٌ وتَعْبئةٌ يَحمِى الجماعةَ إذ يحيا وتِحَمْيِهِ
وليسَ يُحْسنُ فْهَم الدينِ مجتَهِدٌ إذ استخَفَ بأحقادِ الجماعاتِ
فإنَّها ثَمَّ خَلْفَ الأمْرِ ماثِلةٌ وفى ثنايا النَّواهِى والإِشاراتِ
وحيثُما َزمْجَرَ الإعصارُ وانطلقَتْ منه العداواتُ فى صدَّ العداواتِ
فجلجل الويلُ والتنكيلُ وانَدَلعَتْ لظَى الصراعِ عَلاَ صوتُ العباداتِ!!
يتساءل محمد عبدالله محمد فى «شجيرة الورد».. هل عقمت الأرحام أن تلد السلام، وكيف ينساق الأفراد وراء سطوة الجماعات التى لا تنسى معاركها.. قد تكون الجماعة عملاقاً ككل، لكنها محض عضلات وقبضات بلا وجدان ولا قلب.. يسير الفرد فى أعقابها كنقطة بلا حيلة، شأن النملات السائرة على الجدران، حائراً بين السلم الذى لا يعبده أحد، وبين الحرب التى تأخذ بخناق الغرائز، فيصير الناس أضداداً وأعداءً.. انظر ماذا فعلت جماعة بنى إسرائيل بعيسى المسيح.. جاء يبكى الناس قاطبة لا يحركه آباء وأجداد، فاتهموه بشق أمته: بنى إسرائيل، سيق كالشاة (بغض النظر عن شخصية المصلوب) منقاداً لجلاد! فهل يخون الجماعة من فى الحب جاوزها إلى محبة أغيار، أو من تنزلهم لديها منازل الأعداء؟! إن فى ملكوت الرب متسعاً للكل، وشجيرة الورد لن تمنعها الأشواك من الجفاف، فلا حيلة لها فى غابة لا يستهويها سوى الحرب، بينما لم يخلق العطر للأحقاد، بل لإثراء المحبة والأحباب.. خميلة الورد فيها الورد مبتسم، يدعو الجميع إلى الحسنى ويبديها.. هذا الورد الذى تمسك بالعطر والصبر، لا بالغلبة بالمكر والخداع.. يذهب معاناة المتعب، ويزيد فرحة الفرحان.. السلام فهم لا يدركه إلاَّ من نضج وطرد الخوف بإيمانه عن أيامه القابلة ولياليه!
ويقول الشاعر الحكيم محمد عبدالله محمد:
عيسىَ المسيحُ بَكىَ للناسَ قاطِبةً لم يبكِ من أجل آباءٍ وأجدادٍ
فقيلَ عنه شَقٍىٌّ شَقَّ أَمَّتَه وسيقَ كالشاةِ منقاداً لِجَلاَّدِ
خَانَ الجماعةَ مَنْ فى الحُبَّ جاوزَهَا إِلى مَحَبَّةِ أغيارٍ وأضْدادِ
وظّنَّ فى ملكوتِ الربَّ متَّسَعاً للكُلَّ بالفَهْم لم يُحْصَرْ بميلادِ.