كان الراحل الكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين مُحقاً وهو يصف ما جرى فى منتصف السبعينات بأنه «انفتاح السداح مداح»، وهى جملة انطلقت وانتشرت مع شيوع الأغنية الشهيرة للأستاذ أحمد عدوية «السح الدح امبو»، فعكست الكلمة مع «الغنوة» بدء ثقافة جديدة ضربت بجذورها فى المجتمع المصرى.
على مدار حقب وعهود، تفشت أفكار ومعتقدات، عكست تردياً فى منظومة قيم المجتمع المصرى، وبدلاً من سيادة قيم العمل والثقافة والفكر، حلت بديلاً مفاهيم البحث عن الثراء السريع، واعتبار الغنى أساس الأهمية، وبدلاً من قيمة الفكر حلت قيمة المال، ولذلك لم يكن غريباً أن يتراجع المفكرون والمثقفون والمحللون، ويحل مكانهم أنماط اجتماعية استمدت قيمتها من المال فقط، ولو كان مصدره من أى وسيلة.
سيتساءل البعض: وإذا لم يكن المال هو الأساس للحياة والمستقبل فما هو الأساس؟ والحقيقة أن أنصار هذا التساؤل الآن على حق، غير أن المجتمع كان سينظر لهم نظرة مختلفة فى وقت سابق، حين كانت ثقافة المجتمع مغايرة تماماً لما ينطقون به الآن.
لا أدرى هل كان الراحل العظيم أحمد بهاء الدين يتنبأ بمقولة «السداح مداح» بظواهر وسلوكيات مجتمعية وقيمية ستحل فى المجتمع، وتقلب حاله وتبدل من واقعه، وتختطفه إلى حال مغاير متردٍ فى فلسفته وأفكاره، للدرجة التى نشاهدها الآن؟.
المؤكد أن انفتاح السبعينات لم يفعل فعله بمفرده، وإنما الشاهد أنه أنتج ظواهر عديدة متنوعة ومتغيرة اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية، على فترات مختلفة، كان لها تداعيات مؤثرة، ولم تقف الأمور عند حالة بعينها وإنما تفاعلت مع ثورة التكنولوجيا، فانطلقت بالأجيال الجديدة إلى آفاق مرعبة تثير المخاوف على المستقبل.
الرشوة أصبحت إكرامية، والشاى تحول من اسم مشروب إلى توصيف لمخالفة القانون، وتجارة العملة أصبحت وسيلة بديلة للنشاط التجارى على المستوى الشعبى، والتبرير كان «المال» أو البحث عن الرزق والدخل والثروة، وللأسف عايشنا عصوراً وعهوداً، ساهمت فى تدعيم وتكريس وتعزيز هذه المفاهيم فى قلب المجتمع وعقل أجياله الجديدة.
أكثر ما لفت الأنظار فى الآونة الأخيرة، تلك الحملات التى قامت بها أجهزة رقابية، على الشبكة العنكبوتية، وضبطت من خلالها جرائم ومخالفات، تتركز أغلبها فى مفاهيم انتهاك قيم المجتمع وأخلاقياته وثقافته الأصيلة، وكان مبرر هذه الجرائم والمخالفات البحث عن الثراء، أو جمع المال، والتعامل معها من مرتكبيها باعتبارها نشاطاً تجارياً شرعياً ومشروعاً.
فكرة البحث عن المال فى عشرينات القرن الحالى، هى ذاتها فكرة البحث عن المال فى سبعينات وتسعينات القرن الماضى، الفارق بين الاثنين فقط الزمن والتطور التكنولوجى، لكن المضمون واحد، وهو البحث عن الثراء السريع بكل الوسائل الممكنة، وبعيداً عن القانون، وبتبريرات عديدة لا حدود لها، وكلها تستهدف فقط إيجاد مبررات.
الحاصل أننا جميعاً أصبحنا نمارس الفساد بأشكال ومفاهيم مختلفة، فالفساد لم يعد قاصراً على الرشوة المالية، وإنما هو فى البحث عن الواسطة للحصول على ما لا يجوز لك أن تحصل عليه، أو المحسوبية للاستفادة من حالة يستحقها غيرك، لكنك تسعى للحصول عليها لنفسك بغير وجه حق، وهكذا نمارس اختراقاً لقيم المجتمع تحت مسميات عديدة، النكتة أنها مسميات مُضحكة ومثيرة للسخرية، لكننا نفعلها بكل ثقة وهدوء.
مجرد النظر إلى جوانب المجتمع المختلفة يمكنك رصد زوايا مزعجة، مثلاً المستوى الاجتماعى للمعلم مقابل نشاط سمسرة وعمولات، أو باحث أكاديمى مقابل شاب يتلوى ويلقى بكلمات جارحة وقحة تحقق الانتشار بين الملايين، والأمثلة والنماذج كثيرة لا حصر لها، وكلها تكشف لنا كيف تحول المجتمع وانقلبت أصوله ومفاهيمه لحالة أوصلت البعض من الأجيال الجديدة إلى مستوى من التدنى يبرر كل الأخطاء والسلوكيات المشينة.
سيختلف البعض هنا، معتبراً أن ثقافة المجتمع اختلفت، وأن المفاهيم تطورت، وأن الثورة التكنولوجية وثورة المعلومات، فعلت فعلها فى المفاهيم، وتسببت فى تقليم التربة، وانتقلت بالمجتمعات كلها من حال إلى آخر فى قيمه وثقافاته ومعتقداته، وأصحاب هذا الرأى على حق فى كثير مما يقولونه، لكن هذا لا يبرر هذا الانهيار الذى نشاهده فى المنظومة المجتمعية، والانقلاب على قيم لا تتخطاه ثورات تكنولوجية أو معلوماتية، بل بالعكس إن هذه الثورات كان من المفترض أن تسهم فى تعميق وتعزيز هذه القيم، ولكن بأساليب حديثة.
ما عايشناه لسنوات طويلة غرس قيماً أصبح التعامل معها ومواجهتها والتغلب عليها من الأمور الشاقة، وربما هذا ما يفسر عجز العديد من المبادرات والمحاولات عن الصمود فى وجه الموجات المتلاحقة المُستهدفة لثقافتنا.
المؤكد أن هذه الظواهر لم تنجح حتى الآن فى السيطرة على المجتمع والإمساك بجذوره وتحطيمها، فالواقع يقول إن هناك ظواهر عديدة إيجابية، تمكنت من التعاطى مع الثورة التكنولوجية، واستفادت منها إيجابياً، بما يسهم فى تطوير المجتمع والانطلاق به، لكن هذا النجاح لا يجب أن يلهينا عن جوانب سلبية حقيقية مؤثرة وتنتشر فى المجتمع.
البادى أن الدولة المصرية فى السنوات الأخيرة بدأت فى إنتاج أدوات جديدة تعيد المجتمع إلى ما كان عليه، بتقديمها مفاهيم العمل والإنتاج على ما عداها، وهى قيمة مهمة للغاية فى مكونات ثقافة أى مجتمع، وتدفع الناس للمشاركة الفعلية بدلاً من البحث عن المال بالتهليب والسمسرة والأنشطة غير المشروعة.
لكننا نحتاج أيضاً إلى المزيد من المشروعات الثقافية والفكرية، وتشجيع مناخ تنشيط العقل بالاهتمام بمجالات البحث العلمى، ووضع تصورات ومشروعات تعيد للقوة الناعمة دورها فى تكريس الإيجابية داخل المجتمع، ومواجهة كل أسس تبرير الخروج عن قيمنا وثقافتنا التى أوصلتنا فى عصور ما إلى التقدم والازدهار.
أتذكر فيلماً فى ثمانينات القرن الماضى للفنان الكبير محمود ياسين اسمه «انتبهوا أيها السادة»، أعتقد أنه علينا الانتباه المستمر.