تتسلل الكتابة الجميلة إلى دواخلك كأنها «جبر» ليس للخاطر وحده، ولكن لشظاياك المبعثرة من فعل الغربة والاغتراب وجمل حياتك التى لم تكتمل.. هذا عن الكتابة الجميلة على العموم، ماذا حين تستدعى هذه الكتابة «ونستك».. أحبابك الذين أغنوا روحك وأنبتوا شتلات الجمال وعلموك وأثروا حياتك، فبدت حيواتهم «حدائق»، حدائق الصدق الإنسانى، وهو التعبير الذى استخدمه الكاتب إبراهيم داوود، بجملة تعريفية لكتابه الودود: «طبعاً أحباب»، قائلاً عنه إنه «جولة فى حدائق الصادقين»، الصادقون الذين عناهم، هم الذين منحوا الحياة بأريحية وأكسبوها المذاق، وأغنوها وأغنونا، وعرفهم داوود مباشرة والتقاهم أو تعرف عليهم من أعمالهم، من الشيخ مصطفى إسماعيل إلى بورخيس الشاعر، ومن هدى سلطان، عمار الشريعى وبليغ حمدى، إلى الكاتب الإيطالى أمبرتو إيكو ودينو بوتزانى والمخرج اليابانى أكيرا كيروساوا، وزكريا أحمد وشادية والشيخ الشعشاعى ونجيب محفوظ والشيخ محمد رفعت، وكلهم عملوا القماشة المصرية، نسجوا الوجدان المصرى.. كل واحد خاط خيطاً.. والقماشة كبيرة، طول بعرض، وزخم وألوان وأصالة ومتانة، لكنها تتعرض للإتلاف وربما التمزيق. يكتب داوود دفعاً «للقبح» الذى تسلل وتغلغل فى حياتنا فى محاولة لتصحير وجدان المصريين، وللتجريف الممنهج لأرواحنا على مدى عقود بالإحلال تارة والاقتلاع تارة أخرى.. يكتب دفاعاً عمن «صنعوا ذاكرة ووجدان هذا الشعب».. استظل داوود «بأحباب» وسيرهم، من «هجير» الأيام، وائتنست أنا ليس فقط بأحبابه الذين تصادف أنهم «أحبابى»، ولكن بمداد العذوبة الذى بث لنا بها رسائله الموجزة والمضغمة فى آن واحد.... طلاته على حدائق الصادقين، طلات محب تواق لاستبقاء «ريحة الحبايب»، وفى الوقت هى «فضفضة» مما لاقاه ونلاقيه معه من افتراس لوجداننا المصرى بعد أن غابوا بأجسادهم، طلات المحب وفضفضة التواق، يبعثها داوود مشفوعة بما يطلق عليه «مسوغات» المحبة.. هذه المسوغات المغزولة برهافة وشجن مصرى إنسانى، عصى على أن تختزله أو تستقطعه عن نهر مصر الغزير المدفون والذى أريد مواراته لعقود، وما زالت كوامنه تنبض عند داوود وآخرين.. استدعاء بعض من فريق حراس الجمال، ولاد مصر، جزء من درع الدفاع عن وجدان بلد، كما يقول داوود، دوره ومسئوليته أمام الإنسانية «حراسة الجمال والذوق والرقة والخيال».. أحباب داوود، سواء من طاف فى حدائقهم أو من أهداهم كتابه العذب «كعربون محبة»، عابرون للزمان، منثورة حباتهم على مدى الأرض التى نعيش عليها محفوظ.. حجاب.. نجم.. بيرم.. شادية.. وردة.. الموجى.. بليغ.. سعاد محمد.. زكريا أحمد، كتب عن أحباب وأهدى كتابته إلى أحباب.. صلاح عيسى وفيليب جلاب ويوسف الشريف وجمال الغيطانى ومستجاب ورؤوف عياد ورضوان الكاشف وعلاء الديب.. قلبك عامر يا داوود بقدر ما مددت يدك وقطفت من أزاهير بلدنا وحلاوة ما استحلبته من البلد الحلوة دى، لكن المشكلة فى «الردم» الذى صاحب ويصاحب، التجريف والانتزاع بشتلات الوجدان المصرى، يسدون بردم التجريف، منافذ الروح.. شوف كتابته عن مصطفى إسماعيل والشعشاعى وكيفية اكتشافه لمنابع الجمال فى التلاوة المصرية وربط الطراوة والحنية بالصورة المصرية الأوسع على مدى أكبر.. ألفة إبراهيم أصلان الهاربة.. والمشكلة على رأى «داوود العذب» حين كتب عن فقد عمار الشريعى:
«رحل والسعادة عزيزة ومنسوب البهجة يهدد بكارثة».. وهو تشخيص بديع لحالة وجدانية لا أظن أن هناك من لا يستشعرها.. يدعمه معنى التقطه مما كتبه عن الغناء وهو يستحضر هدى سلطان، قال الغناء واستأذنه فى قوس أكبر.. الفن بقوسه الواسع ضرورى كى يكبر الأطفال وتثمر الحدائق ويفيض النهر ويسقط المطر.. ممتنون يا «داوود» لاستعادة الونسة والعذوبة وبعض من دواخلنا.
و«طبعاً أحباب»..