فقدت مصر ومدينة قنا واحداً من علمائها الكبار، هو العالم الأزهرى الجليل شريف النسب، وصاحب الكرم والمروءات، ذو الأريحيات الصادقة، والأخلاق الآثرة، فضيلة الشيخ «محمد مسعود الزليتنى» عن عمر ناهز 82 عاماً، ونعاه الأزهر الشريف مذكِّراً بجهده الدعوى والاجتماعى.
وُلد الشيخ الزليتنى فى 15 مايو 1937، ونشأ فى بيت كرم ونسب، ونال احترام الجميع، وحفظ القرآن الكريم فى طفولته، وتخرج فى معهد قنا الدينى سنة 1951م، وحصل على شهادة كلية أصول الدين قسم عقيدة وفلسفة سنة 1965م، وتربى على مائدة العلماء والمخلصين من أكابر الشيوخ والأولياء، أمثال: الشيخ عبدالحليم محمود، والدكتور سليمان دنيا، والشيخ إبراهيم شحاتة، والشيخ طاهر عبدالمجيد، والشيخ محمود أبوالعيون، وله تلاميذ كثر من بينهم الأستاذ الدكتور «جمال فاروق الدقاق» العميد السابق لكلية الدعوة الإسلامية.
وخلال حياته تداعى إلى بيته الطلاب والدارسون للاستفادة من علمه الغزير ومنهجه المعتدل، وتربيته الروحية، وارتبط اسمه بإمامة مسجد سيدى عبدالرحيم القنائى الشهير بمدينة قنا، فقد ظل عدة سنوات خطيباً فيه، وكانت تأتى إليه الوفود من كل حدب وصوب، وفوق ذلك فإن الراحل الكبير شاعر مجيد، له فى الشعر قدم راسخة، وكان من ذوى الهمم العظام.
وإن التعريف بأمثال هؤلاء العلماء والالتفات نحو تراثهم يُعد واجب الوقت، لأن العالم الجليل عاش حياته محباً لوطنه، مدافعاً عنه، لم يكن فظاً ولا غليظاً، ولا متشدداً ولا متزمتاً، ولا حاد الطباع، يقبل الآخر، ويرفق بالناس، ولا يشدد عليهم فى دينهم ودنياهم، وانتماؤه للمنهج الأزهرى واضح جلى، وقد وقف -طيب الله مضجعه- أمام المناهج المنحرفة، التى مثلت قوارع تفُت عضد العلم والمعرفة الإسلامية، ووقف ضد أصحاب الفتاوى النشاز، ممن خلعوا رسن العلم والتأصيل، وخلطوا بين الغث والسمين، وجلبوا على صورة الإسلام النقية عاراً وتشوهاً، وملأوا الساحة ضجيجاً.
وظل الراحل الكبير صوفياً سنياً معتدلاً، يعود بالتصوف إلى سياقاته الأصلية، وسرت النزعة الصوفية فى أتباعه، وكان تصوفُه معارج للوصول إلى طريق الحق بالوسائل المشروعة، بعيداً عن التطبيقات الخاطئة من بعض المنتسبين للتصوف، فالتصوف كما عاش له وبه لم يكن عنده أشكالاً ومظاهر منزوعة عن الواقع، بل كان حركةً إصلاحيةً شاملة، من خلالها حفظ الحقوق، وحافظ على الأوطان، وحكم بالعدل، وترك الجفاء، ونصح للأمة، وفض النزاعات، وألف القلوب، وأرشد المخطئ، وقبل الآخر، وانشغل بنفسه، وكم أطعم فقراء حرق لهيب الجوع أكبادهم، وسعى فى ستر البنات غير القادرات على الزواج، لقد كان تطبيقاً عملياً لقول الإمام مالك: «من جمع بين التصوف والفقه فقد تحقق».
وعمل الراحل الكبير -عليه سحائب الرحمات تترى- بالتأليف، فكتب (ديوان الخطب المنبرية) من ثلاثة أجزاء، ومنظومة فى العقيدة تحت عنوان: (تمام المنة فى بيان عقيدة أهل السنة)، وله ديوان شعر من ثلاثة أجزاء، تناول فيه كافة الأغراض الشعرية، وهو الآن موضوع ماجستير للباحث صهيب خليفة السمان المعيد بكلية اللغة العربية بأسيوط.
وفى يوم 4 يوليو 2020 جاء نعى الشيخ الجليل، فشعر الجميع بلوعة حارقة، وخلت الديار من عزيز لا يُعوض، وانهمرت دموعُ المشيعين من هول الفاجعة، ورزء المصاب، ومضى الركب إلى مثواه الأخير، وفقد الأزهر برحيله دوحةً وارفة الظلال، وانطفأت بوفاته صفحةُ مجيدةُ من صفحات الشرف والصدق والتصوف والعطاء.
هم كالنجوم مَقامهم كبد السَما ** وَحظوظهم فى الليلة القَمراءِ
اللهُ أكرمَهم وَأعظَم شَأنهمٍ ** حتى رقوا المراتبِ الجوزاءِ
فاجعل مَقَامُهم بأعلى جَنَّةٍ ** تَزهو ومقرُهُم مَع السعداءِ