من أبرز إنجازات ثورة 30 يونيو أنها أوضحت للعالم كله ما كان يخفى عليه عن طبيعة العلاقة بين المصريين وقواتهم المسلحة، وكلنا يتذكر كيف وقف العالم كله ضد الثورة التى قام بها الشعب وأيدها الجيش، وخلال شهور قليلة اعتدل الميزان بعد أن استوعب العالم أن مقولة «الشعب والجيش إيد واحدة» لم تكن مجرد شعار ثورى طارئ، بل حقيقة دامغة اتضحت معالمها فى مرحلة تاريخية فارقة فى حياة المصريين والمنطقة العربية من محيطها إلى خليجها.
من أهم أسرار الثورة التى توضح طبيعة ومتانة العلاقة بين الشعب والجيش، ما كشفه لى سيد عبدالعال رئيس حزب التجمع، عن الوردة البلدى التى غيرت موقف دول أمريكا اللاتينية من الثورة من الإدانة إلى التأييد الكامل لها.
بالتنسيق مع وزارة الخارجية عن طريق متحدثها الرسمى آنذاك السفير بدر عبدالعاطى، بادر حزب التجمع بالاتصال بسفراء دول أمريكا اللاتينية التى أدانت كلها ما حدث فى 30 يونيو، وبمساعدة السفير الكوبى تمت دعوة سفراء دول أمريكا اللاتينية لاجتماع فى مقر حزب التجمع، وقام الراحل الدكتور رفعت السعيد رئيس الحزب، وسيد عبدالعال الأمين العام وقتها ورئيس الحزب الحالى، بشرح كل ما حدث من تطورات أدت إلى ما حدث فى 30 يونيو و3 يوليو، وحصل كل سفير على وثائق ومستندات وأفلام مصورة تكشف جرائم الإخوان، وانتهى الاجتماع دون وعد قاطع من أى سفير بتغيير الموقف، وخلال أيام قليلة وصلت برقيات تأييد دول أمريكا اللاتينية للثورة، وفيما بعد كشف السفير الكوبى أن أهم وثيقة أدت لتغيير مواقفهم كانت عبارة عن صورة فوتوغرافية لمواطن مصرى يهدى «وردة بلدى» لجندى فوق دبابته، وقال السفير الكوبى إن الصورة أغنتهم عن الاجتهاد كثيراً لطرح أسبابهم كسفراء لدفع دولهم لتغيير مواقفها، الصورة أكدت أن الشعب هو من استدعى الجيش لحمايته، وليس من المتصور عقلاً أن يهدى مواطن -أى مواطن- لعسكرى -أى عسكرى- وردة وهو يشارك فى انقلاب على السلطة، وهو ما يعنى أيضاً أن الجيش المصرى يختلف عن الجيوش التى اعتادت الانقلاب على السلطة الحاكمة فى بلادها.
العلاقة بين الشعب المصرى والجيش لم تكن وليدة ثورة يونيو، أو بمناسبة الظرف الموضوعى الذى حتم ضرورة التخلُّص من حكم الجماعة الإرهابية، لكنها أقدم وأعمق من ذلك، ففى دراسة نشرتها مجلة «الطليعة» عام 1966، للزعيم اليسارى البارز وقتئذ زكى مراد، وكان أحد قادة الحركة الوطنية للتحرر الوطنى (حدتو) فى خمسينات وستينات القرن العشرين، تناول العلاقة التاريخية بين الشعب المصرى والجيش بصفته من أعرق المؤسسات المصرية وأقواها وأكثرها ارتباطاً بمعارك الخارج والداخل، وتتطرق الدراسة لدور الجيش فى ثورة 23 يوليو، وانتهى «مراد» إلى أن الجيش انحاز للإرادة الشعبية عام 1952، كما فعلها عام 2013.
الجيش فى مصر -كما تشير الدراسة- كان محرماً على المصريين، منذ الهزيمة أمام «قمبيز» سنة 525 ق. م، واستمر الوضع هكذا لأكثر من ألفى عام، إلى أن جاء محمد على والياً على مصر واستهدف تأسيس جيش يستغنى به عن الجنود الأتراك والمماليك، وفى يناير 1823 تم تكوين ست آلايات (فرق) وكانت وظائف الضباط حكراً على الأتراك والمماليك، وسرعان ما أظهر المصريون ذكاءً فائق الحد، ما دفع محمد على لإدراجهم فى وظائف (صف الضباط) وبعد عدة سنوات عمّ سخط المصريين على الخديو إسماعيل، وبدأت بشائر حركة قومية مصرية أصيلة، نما خلالها نفوذ ضباط الجيش الذى أصبح المنظمة الوحيدة التى تحمل آمال الشعب فى الخلاص.
ومن داخل الجيش نبعت المنظمة السياسية للثورة (الحزب الوطنى)، وأصبح الجيش هو الطليعة الثورية للشعب سياسياً وعسكرياً، وبعد الاحتلال البريطانى لمصر سنة 1882 وقّع الخديو توفيق أغرب مرسوم فى التاريخ، ويقضى بـ«إلغاء الجيش المصرى» لمشايعته تأييده العصيان، ومرة أخرى لم يعد لمصر جيش، وبعد ثورة 1919 شرع الاستعمار والسراى فى تأسيس جيش جديد تحت قيادة ضباط إنجليز، وبعد معاهدة 1936 تم تعيين أول قائد مصرى للجيش وهو الفريق عزيز المصرى. بعد حرب فلسطين عام 1948، بعدها زاد اندماج الضباط والجنود فى صفوف الحركة الوطنية، وبدأ يتخذ مظاهر سافرة العداء للاستعمار والسراى، وكان تنظيم الضباط الأحرار هو الوحيد المستمر فى النضال السرى ضد النظام، وذاع برنامج الضباط الأحرار بين صفوف الثوريين، وتقدموا وكانت ثورة يوليو.
فى كلمات بالغة الدلالة جاء فى الميثاق: أعظم ما فى ثورة 23 يوليو أن القوات التى خرجت من الجيش لم تكن صانعة الثورة، وإنما كانت أداة شعبية لها، وانضم الجيش للثورة تحت قيادة الشعب وأعلن ولاءه للنضال الشعبى.