تمتع «الحجَّاج» بقدرة خاصة على التلاعب بالأفكار والألفاظ، ولعل أبلغ دليل على ذلك الخطبة التى ألقاها بعد أن فزع جنوده من الصواعق التى بدأت تبرق فى السماء بعد ضرب الكعبة بالمنجنيق، وقال فيها: «ويْحَكُم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على مَن كان قبلنا فتأكل قربانهم إذا تُقبل منهم، فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته، فعادوا إلى المحاصرة».
ورغم قوة شوكة عبدالله بن الزبير، فإنه لم يستطِع الصمود أمام القيادة المحنكة والحاسمة لـ «الحجاج». استمر جيش الحجاج فى حصار «ابن الزبير» ومن معه، وواصلَت آلة القتل العاتية عملها. ولم يكن أمام أهل مكة إلا التسليم، فبدأوا يخرجون إلى «الحجَّاج» طالبين الأمان، حتى خرج إليه أكثر من عشرة آلاف فأمَّنهم، وقلّ أصحاب ابن الزبير، حتى خرج إلى «الحجاج» حمزة وخبيب ابنا عبدالله بن الزبير، فأخذا لنفسيَهما أماناً من الحجَّاج فأمَّنهما.
ودخل عبدالله بن الزبير على أمه (أسماء بنت أبى بكر)، رضى الله عنها وعن أبيها، فشكا إليها خذلان الناس له وخروجهم إلى «الحجّاج» حتى أولاده وأهله، وقال لها: «لم يبقَ معى إلا اليسير، ولم يبقَ لهم إلا صبر ساعة، والقوم يعطوننى ما شئت من الدنيا. فما رأيك؟. فقالت: يا بنى أنت أعلم بنفسك. إن كنتَ تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يلعب بها غلمان بنى أمية. وإن كنت تعلم أنك إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت أهلكت نفسك، وأهلكت مَن قتل معك، فدنا منها وقبّل رأسها وقال: هذا والله رأيى، ثم قال: والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعانى إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكننى أحببت أن أعلم رأيك فزدتنى بصيرة مع بصيرتى، فانظرى يا أماه فإنى مقتول فى يومى هذا، فلا يشتد حزنك وسلِّمى لأمر الله». وبالفعل خرج ابن الزبير وحده يقاتل فقُتل من يومه، وعيّن عبدالملك بن مروان «الحجَّاج» والياً على الحجاز.
يشير صاحب «البداية والنهاية» إلى أنه «لما قُتل ابن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فخطب الحجاج الناس فقال: أيها الناس، إن عبدالله بن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب فى الخلافة ونازعها أهلها، وألحد فى الحرم، وإن آدم كان أكرم على الله من ابن الزبير، وكان فى الجنة وهى أشرف من مكة، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة التى نهى عنها أخرجه الله من الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله». كذلك لسان الاستبداد فى كل زمان ومكان قادر على قلب الحقائق، وإلباس الباطل ثوب الحق. فكل إنسان شريف كريم حتى إذا اعترض طريق الجالس على عرش الخلافة أو ثار فى وجهه، فإنه يصبح حلال الدم!.