يختلف الكثيرون على من يسبق الآخر فى أولويات الحياة والبشر: العدل أم الحرية؟؟
فمن وجهة نظر البعض أن الحرية تسبق كل شىء، وأن الإنسان بلا حرية كائن فى مهب الريح تعصف به الأيام يميناً ويساراً، وهو لا يستطيع أن يغير شيئاً، لأن أقسى أنواع العذاب النفسى والإنسانى ألا تنطق أو تتكلم، وحين جاء الإنسان إلى العالم وبدأت مسيرة البشر كانت الكلمة سر الله فى خلقه، وليس معنى هذا أن الحرية هى حرية الكلام فقط، ولكن الحرية هى أساس الاختيار، وقد خلق الله البشر مختارين غير مجبورين فقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} سورة الإنسان الآيتان (2، 3) {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} من سورة الشمس، إلى غير ذلك من الآيات التى تدل على أن الإنسان مخير، والتخيير لا يكون إلا لحر، وليس أدل على أن الله خلق الإنسان حراً من أنه أنزل الشرائع التى تحرر الإنسان من أن يكون عبداً لشهواته أو عبداً لأى شىء من خلق الله، فحمت حرية الإنسان بأن جعلت العبودية لله وحده، وذلك أسمى شىء فى الوجود، فالله جعل الإنسان مكرَّماً مفضَّلاً بأن كفل له حرية الاختيار فقال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} الإسراء آية (70)، ولو فهم الناس معنى الحرية الحقة السامية التى تحرر الإنسان حتى من نفسه وشهواته لصلح حال البشر وتنافسوا فى الخيرات، ولعمرت الأرض، فكلٌّ مختار، حر فى الاعتقاد، حر فى الفكر، حر فى أن يفعل كل شىء غير متجاوز حرية الآخرين محترماً لها مراعياً حقوقهم؛ لأنه تحرر من عبوديته لشهواته، فالحرية هى أساس الاختيار، بها يستطيع الإنسان الحياة، ولنا أن نتصور الإنسان بلا حرية فى أن يختار ما يفعله ويحيا به ويعتقده، فإنه سيكون جسداً ميتاً بلا روح، وإذا غابت الروح انعدم الإعمار، وجمدت الحياة، وعمَّت الظلمة والسكون، وفسدت الأرض التى نحيا عليها، ولهذا فإن الحرية تسبق العدل.
ومن وجهة نظرى فلا أختلف فى أن الإنسان خلقه الله مختاراً، وأن الإنسان بلا حرية واختيار جسد بلا روح خلَّاقة مبدعة معمرة للحياة، ولكن مع ذلك فإن الحرية لا بد لها من حماية تكفلها وتؤكدها وتصونها للإنسان، وهذه الحماية لن تكون إلا بالعدل الذى هو ميزان الحياة، بغيابه تنعدم قيمة كل شىء فى الحياة، فالعدل هو الذى يحمى أساسيات الحياة، وحين يغيب تصبح الحياة غابة واسعة يأكل الناس بعضهم بعضاً، فالعدل مصدر الحماية للضعفاء من جبروت الأقوياء الذين لم يتحرروا من شهواتهم، والعدل هو الذى يحمى حقوق البشر وحرياتهم، وحين يغيب فلا قدسية لحقوق الإنسان. إن العدل هو الذى يجعل من الحرية حقاً، وبغير العدل لا حرية لأحد، فالعدل هو الذى يحمى حق الاختيار، وبدونه تصير الحرية لغواً، يعصف بها الظلم والبطش ويجعلها هباءً منثوراً.
ومن اللافت للنظر أن الخالق جل وعلا وصف نفسه بالعدل ولم يصف نفسه بالحرية؛ لينتبه البشر إلى أن حياة الإنسان على الأرض لن تكون فى مأمن بدون إقامة العدل وإرسائه، فالعدل ظل الله على الكون، أمر به فى العديد من آيات القرآن الكريم، بينما لم نجد أى أمر لإقامة الحرية، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من سورة المائدة آية (8)، وقوله تعالى {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} من سورة النحل آية (90)؛ وإذا لم يُمتثَل لأمر الله بإقامة العدل على الأرض فستغيب القيم الإنسانية وكل الأشياء العظيمة فى حياة البشر، ويعم الخوف، وتنتشر الفوضى، وتصير الأرض مقسمة بين غابتين إحداهما لحيوان غير ناطق والأخرى - لا قدّر الله - لآخر ناطق!
إن العدل هو الذى يحمى كرامة الإنسان، وكرامة الأسرة، وقبل هذا كله كرامة الشعوب، فمن السهل جداً أن تدّعى الحرية، ولكن من الصعب أن تدّعى العدل وأنت غير عادل، ولهذا فإن العدل ميزان الحياة، وهو الذى يضع الضمانات التى تحمى الحرية.
ولو سألت إنساناً عادياً هل تريد العدل فى حياتك أم الحرية، فسوف يقول لك هناك حرية مزيفة، ولكن العدل له طريق واحد إما أن تكون عادلاً أو ظالماً.