فى الولاية الشمالية بالسودان غمرت مياه الفيضان الأرض الزراعية، وغزت البيوت بصورة غير مسبوقة منذ سنين طويلة. البعض يقول إن فيضان النيل هذا العام لم يحدث منذ 30 سنة. مشاهد الفلاحين وهم يحاولون تلجيم النهر الثائر دون جدوى تداولها الكثير من وسائل الإعلام.
وفى مدينة «أنجمينا» بدولة تشاد غمرت السيول منطقة كبيرة هناك، وتحولت البيوت والشوارع إلى ترع كبيرة. هرع الأهالى وأمسكوا بأدوات كسح المياه، فى ظل غياب كامل للحكومة، محاولين دفع الأذى عن أنفسهم، لكن دون جدوى.
وفى اليمن، اجتاحت السيول معظم المدن اليمنية، بما فيها العاصمة صنعاء، وهرع الناس إلى العراء، بعد أن تلفت منازلهم وانهار بعضها. حاولوا قدر الجهد فرملة المياه المتدفّقة فى جميع الاتجاهات، ولما تعبوا وعجزوا آووا إلى الشوارع ليعيشوا فيها.
فى المشاهد الثلاثة تجد أمرين أساسيين. الأول الأهالى يحاولون حل مشكلاتهم وحماية حياتهم ومقدراتهم، فى مقابل سلطة غائبة أو غير قادرة لأسباب مختلفة عن حل المشكلات وحماية الناس من المخاطر، أهم هذه الأسباب عدم وجود التمويل الكافى لإنشاء شبكات تصريف المياه، أو اختزانها والانتفاع بها.
الأمر الثانى أن الطبيعة الحنون يمكن أن تتحول فى لحظة إلى سيف نقمة، وهى التى كانت بالأمس مصدراً من مصادر النعمة على البشر. الناس بحاجة إلى الماء الذى يسوقه خالق الكون إليهم، ولكن عندما يزيد عن حده تتحول النعمة إلى نقمة، وتتحول الطبيعة الحانية إلى يد قاسية تضرب بقوة من لا يقوى على المقاومة.
التفسير العلمى قد يربط ما حدث من سيول غزيرة بالتحولات المناخية، وبطبيعة المطر والفيضان هذا العام، اعتماداً على مقارنة الأرقام الحالية بما سبقها. ثمة ألسنة أخرى ابتعدت عن التفسيرات العلمية وأخذت تنظّر لسيول وفيضانات العام الحالى بطريقة مختلفة. التقط البعض هذه الأحداث وأخذ يربط بينها وبين أحاديث نبوية وأقوال لبعض الصحابة وأهل بيت النبى تتحدث عن «نهاية الزمان» و«زوال الأيام» وقرب «القيامة»!.
ليست تلك هى المرة الأولى التى تهطل فيها الأمطار وتتكاثف السيول ويعظم الفيضان، كما أنها أيضاًَ ليست المرة الأولى التى نسمع فيها مثل هذه الأحاديث الركيكة عن نهاية الزمان. ولست أجد تفسيراً لميل البعض إلى الربط بين المسألتين سوى العجز.
المواطنون داخل الكثير من دول العالم الثالث يعيشون منذ عدة سنوات ابتلاءات مبينة، بعضها سببه البشر والأداء العام داخل كل دولة، كما هو واضح داخل دول السودان وتشاد واليمن، وبعضها الآخر مرده العجز عن استيعاب الأحداث والأوجاع التى تحيط بهم من كل اتجاه. فى مثل هذه الأحوال يؤدى العجز أمام قوى الطبيعة إلى اللجوء إلى ما وراء الطبيعة.
ما أكثر ما ارتبطت السيول والفيضانات والزلازل فى حياة الكثير من الشعوب -ومن بينها الشعب المصرى- بأحاديث عن قرب «القيامة» و«نهاية الزمان». فالهلع والفزع الذى ترسّخه الأحداث الموجعة فى النفس يؤدى إلى تسلمها أى أفكار محلقة بعيداً عن الواقع.
الأحداث الموجعة تضغط على أعصاب الناس، وتضعهم أمام مجهول. والخوف من المجهول هو العامل الأهم فى تهيئة البشر لقبول ما لا يقبله العقل فى الأحوال العادية ويجعل الناس نهباً لمن يرون المطر إشارة، والسيل علامة، والفيضان كرامة.