تفيد الأخبار بأن مواطناً إماراتياً قام بإنشاء وقف خيرى ومصلى باسم «طبيب الغلابة» الراحل الدكتور محمد مشالى؛ وهو خبر ينضم إلى عشرات الإفادات الأخرى عن مواطنين مصريين وعرب تأثروا بمسيرة هذا الطبيب الراحل النادرة، وقرروا القيام بأعمال من شأنها تكريمه أو إلقاء الضوء على مسيرته الإنسانية الملهمة. باتت قصة الدكتور مشالى ضمن القصص الملهمة التى يحلو للجمهور، وبعض المؤسسات، الاحتفاء بها والتركيز عليها وتقصى تفاصيلها، لما رأوا فيها من تأكيد على المنحى الإنسانى الذى نفتقده كثيراً فى هذه الآونة. يبدو لأى متابع لقصة الدكتور مشالى، التى بدأت معالمها فى البروز عشية رحيله، أنها لا تنطوى فقط على مسيرة إنسانية وعملية تنطلق من رؤية واضحة لما يجب أن تكون عليه مهنة الطب، ولكنها تتضمن كذلك دليلاً على افتقاد شديد لوجود رموز وأبطال فى مجالات العمل الوطنى والإنسانى. لا يستطيع أى مجتمع أن يمضى قدماً فى الإجابة عن التساؤلات الملحة والمتكررة عن الجدوى والمعيار من دون أن تكون هناك علامات هادية، وتلك العلامات بالذات لا يوفرها غير قادة ومفكرين ومواطنين استطاعوا أن يحولوا مسيرة عملهم العادية إلى مُثل مرشدة، عبر ربط أنشطتهم وممارساتهم بقيم عليا يتوافق عليها المجتمع. لقد اجتهد علماء ومفكرون كثيرون على مر التاريخ فى محاولات لسبر أغوار محركات التغيير الثقافى والاجتماعى، وظهرت فى ثنايا تلك المحاولات أفكار ورؤى مختلفة ومتضاربة فى العديد من الأحيان، لكن من الصعب جداً إنكار أن توافقاً لافتاً بدا فى معظم تلك المحاولات، التى أتت من سياقات مختلفة، على ضرورة اعتماد الرمز وتكريسه، لما يحمله هذا من تجسيد واضح للقيم المتفق عليها، وإعلاء لتمثلها ومحاولة إرسائها فى الواقع، وتشجيعاً للجمهور لتبنيها والتماسها.
«لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم».. فى هذا الشطر من الشعر الذى جاءنا من شاعر قديم يتضح هذا المعنى البليغ الذى يربط بين حركة المجتمع من جانب وأدوار ملهميه ومرشديه من جانب آخر؛ أما الشطر الثانى من البيت نفسه فيلخص ما تكون عليه الحال حين يفقد المجتمع تلك العلامات المضيئة؛ إذ يقول: «ولا سراة إذا جهالهم سادوا». والمعنى واضح والبيان حاسم فى آن؛ فالسراة باعتبارها أعلى الشىء ومعظمه وأوسطه ستظل مبتغى ومراداً للمجتمعات والدول، ومن دون وجود العلامات المضيئة البارزة التى تعكس القيمة والاعتبار سيضل المجموع ويرتبك، وعندما تكون السراة عنواناً للجهل، فالعواقب ستكون وخيمة، لأن حركة المجتمع والدولة ستمضى فى الطريق الخطأ، بلا مرشد أو رشاد.
فى الوقت الذى تبرق فيه شهب الجهل والتردى، وتتخبط الأفكار فى رؤوس الناس، ويكاد العبث والانحطاط يسيطران على العقل الجمعى، عبر بروز نجوم لامعة بلا مضمون، تعكس نجاحات رخيصة وسهلة حققها ممثلون أو لاعبو كرة قدم أو رجال أعمال مثيرون للجدل أو نشطاء «سوشيال ميديا» غارقون فى الممارسات المبتذلة أو مطربون فاسدو الذوق، يجد الجمهور قصة حقيقية، يمكن أن تنتشله من هذا العبث والانحطاط، فيأمن وتطمئن خواطره. حدث هذا مرات ومرات، عندما بزغت تجربة الدكتور مجدى يعقوب، أو قصة نجاح الدكتور أحمد زويل، أو الاختراق الفنى والإنسانى الذى حققه نجيب محفوظ. لم يكن لدينا أى سبب يجعلنا نيأس من غياب «سراة» ملهمة ومرشدة، فالوقائع لم تبخل علينا باقتراح رموز، لكن الإشكال ظل مقيماً وقادراً على التشويش على خياراتنا وقناعاتنا. لم يفعل الدكتور مشالى سوى أنه أخلص لمبدأ بدا محل توافق مجتمعى ومؤسسى كما يفعل أبطال الأساطير، وهو لم يتخلف يوماً عن إثبات التزامه الأساسى والجوهرى تجاه هذا المبدأ، ورغم أى محاولة استهدفت تغيير ملامح «أسطورته» الصغيرة، فإنه بدا عصياً على الركون للإغراء. تلك قصة نريدها ونطلبها ونسعى إليها ونحتفى بها، لأنها تمنحنا قدرة على تكريس معايير الضبط الاجتماعى، وتوفر لنا قدوة ومثلاً، سيمكننا أن نطلب احتذاءه، وإذا تعذر هذا لما تنطوى عليه من نزعة جمعية تقاوم طوفاناً من الإغراء وسياقاً لا يحتفى سوى بالمكسب والحس الفردانى، فعلى الأقل سيمكننا من خلالها أن ننتقد المخالفين من أصحاب النجومية الفارغة وسارقى الرمزية والغارقين فى تكريس القيم المضادة، خصوصاً بين المهنيين ومنهم بعض الممارسين لمهنة الطب للأسف الشديد. لكن المصائب لا تأتى عادة فرادى، وهى أيضاً تجتهد أحياناً لإدهاشنا، وهو ما حدث حين ظهرت التقارير عن طرح السؤال العبثى المتكرر: هل يدخل الدكتور مشالى الملكوت؟
نحن نذكر هذا السؤال، ليس فقط لأنه سبق طرحه بخصوص الدكتور مجدى يعقوب، لكنه حدث أيضاً مع علماء ورموز على المستوى العالمى؛ إذ ظهر أن ثمة بيننا من يتجاهل كل ما ورد فى السطور السابقة، وأن يصر على أن يختصر العالم فى هاجسه الضيق وأن يحاكمه بمنظوره الأحادى. هل يجوز لنا أن ننشغل بما إذا كان نيوتن أو فلمنج أو مانديلا أو نجيب محفوظ سيدخلون الجنة أم سيقبعون فى النار؟ هل يجوز لنا أن نختصر مسيرة هؤلاء العظام فيما نعتقد فيه أو نفهمه من «أحكام التدين»؟ هل يجوز لنا أن نسأل عن عقيدة الدكتور مجدى يعقوب أو عن ضمير الدكتور مشالى؟ هل نحن على هذا القدر من الخطل والانتهازية والأنانية؟
يبدو أن بيننا من يصر على ذلك، ويبدو أيضاً أن بيننا من يصر على تفتيش ضمائر الناس، ومن يعتقد أن الدين ليس سوى ما يعتقد فيه ويعرفه، ومن يهتم بتقصى مآلات البشر فى الآخرة. تلك قيم مضادة يراد لها أن تتكرس وتسود، وهى للأسف لا تعكس هواجس أشخاص محدودى التأثير والاعتبار لكنها تطرح تحدياً خطيراً حين نعرف أن قطاعات من الجمهور تهتم بها وأن بعض المؤسسات أو المحسوبين عليها لا يتورعون عن الخوض فيها. إذا لم يكن الدكتور مشالى موجوداً كحقيقة وممارسة فعلينا العمل على إيجاده.. وتلك مسئولية المجتمع والمؤسسات، أما وقد كان موجوداً فليس أقل من أن ننزله الموضع المناسب والمكانة اللائقة لأجل مصلحتنا وليس فقط تكريماً له، لكن أن نترك كل هذه النعمة ونسأل عن معتقده وضميره الدينى، فليس سوى عبث.